Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. عبدالله السالم

وهم الحب

A A
الإدراك عملية تقنية معقدة تشمل مجموعة من الأنشطة المعرفية ويشترك فيها عدد من الحواس الإنسانية، وإدراكنا للأشياء والأمور من حولنا لا يعنى إدراك الحقيقة بنسبة (١٠٠٪).. ذلك لأن عملية الإدراك تتأثر بميولنا العاطفية واهتماماتنا الشخصية وخبراتنا المكتسبة في ماضي حياتنا.. وقد نتعرض أحيانًا لخداع بعض حواسنا التي تصور الأمور للعقل بشكل يخالف الواقع الفعلي (كما هو الحال عند مشاهدة ظاهرة السراب مثلا). ولو سألت مجموعة من الأشخاص عن رأيهم في فرد معين لوجدنا أنهم يتفاوتون في تقييمهم له ونظرتهم إليه، فهناك من يمدحه ويشيد بمحاسنه، وهناك من يذمه ويعدد مساوئه.. قال الإمام الشافعي:

عين الرضا عن كل عيب كليلةولكن عين السخط تبدي المساويا

الإنسان عندما يعشق ويتعلق بمحبوبه ويهيم في هواه تغيب عن حواسه إدراك عيوب هذا الحبيب ومساوئه، فينظر إليه بمنظار الرومانسية التي ترى الأشياء من الزاوية الجمالية المثالية، ولذلك يعرف الفيلسوف اليوناني ارسطاطاليس العشق بأنه «عمى الحسن عن إدراك عيوب المحبوب».. فكل إنسان مهما توافرت فيه صفات الجمال لن يصل إلى درجة الكمال، فالكمال للخالق وحده ولا يوجد مخلوق خال من العيوب، لكن شغف المحب بمحبوبه يجعله يهمل التمعن في العيوب، ويركز على المحاسن التي افتتن بها، ويهيم بخياله في إضفاء المزيد من صفات الحسن والكمال على ذلك المحبوب، ولذلك نجد أن كل عين ترى ما توده حسناً، يقول الشاعر:

ولا تلم المحب على هواه .. فكل متيم كلف عميد

يظن حبيبه حسنا جميلا .. وإن كان الحبيب من القرود

في علم النفس يقولون إن الإدراك عند الإنسان يتأثر بجملة من العوامل من أهمها:

الانتقائية والاهتمامات والميول والتوقعات والخبرة الماضية والخلفية الثقافية والتعليمية.

ولا غرابة أننا كأشخاص نختلف في كيفية إدراكنا للأمور، ذلك أننا في بعض الأحيان لا نرى الأشياء بنفس الطريقة التي يراها الآخرون، أي أننا لا نرى الأشياء بعيونهم ولو رأيناها بعيونهم لالتمسنا لهم الأعذار وفهمنا مبررات إدراكهم بمنظور مختلف.

وهناك ظاهرة تسمى وهم الحب The illusion of Love استوقفت عددًا كبيرًا من علماء النفس، وخلاصتها إن خيال المحب يضفي على المحبوب كل ما يهواه من ضروب الصفات التي يحبها، ولذلك نجد أن أوهام المحب تضفي على شخصية المحبوب الكثير من المزايا التي تجعله شخصية نادرة وإن كانت الحقيقة عكس ذلك.

كما أشار ابن حزم أيضًا في كتاباته إلى ظاهرة التثبيت Fixation التي غمرته، ومدرسة التحليل النفسي توضح أن الإنسان يتأثر بالتجارب المبكرة في حياته وبعضها ينغرس في شخصيته وينتقل معه حتى إلى مراحل لاحقة من عمره، حتى بعد انتقاله إلى مرحلة النضج النفسي أو البلوغ العاطفي.

يذكر ابن حزم بأنه أحب في صباه جارية له شقراء الشعر.. وأنه ما استحسن منذ ذلك الوقت ذات الشعر الأسود ولو كانت على صورة الحسن نفسه.

وهنا المثل شاهد آخر على تأثر الحبيب بالتجارب السابقة والميول العاطفية التي تكونت لديه في أول عمره.

في الختام على الإنسان أن يعقل تفكيره ولا يبالغ في إضفاء الصفات والمزايا التي لا تتوفر في من يحب، فيكون ضحية المبالغة في وهم الحب.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store