لقد منَّ الله على المملكة العربية السعودية، فشاءها أن تكون أمينة على مقدسات المسلمين في مكة المكرمة والمدينة المنورة.. وقدَّر لها ملكًا خادمًا للحرمين الشريفين، بحكومة وبعثات دبلوماسيَّة وقنصليَّات ثقافيَّة ومراكز إسلاميَّة لتكون مرجعًا لمعرفة الإسلام القويم، ومقصد الجاليات المسلمة خارج العالم الإسلامي، يرجعون إليها في أمور دينهم ودنياهم، وممارسة شعائرهم الدينيَّة، وتعليم أبنائهم اللَّغة العربيَّة كونها لغة قرآنهم الكريم، ولِما فيه من إثراء للعلم والمعرفة، يقبل على تعلم النطق بالعربيَّة مسلمون وغير مسلمين.
عايشت عن قربٍ، وأنا على رأس بعثة بلدي الدبلوماسيَّة في تايبيه بمطلع سبعينيَّات القرن الماضي ما تعانيه المسلمات الصينيَّات من تشدُد أئمة مساجدهم، والتضييق عليهنِّ في كثير من أمور حياتهن اليوميَّة.. ومنها على سبيل المثال لا الحصر، التأنيب لعدم الالتزام بصلاة الجمعة في المسجد، ومن يحضر منهن الصلاة لا يبدلن لباس العمل (اليونيفورم) بلباس شرعي، ولا يحرصن على تغطية شعورهن.. وعذرهنَّ أنَّ يوم الجمعة هو يوم عمل، وفرصة الغداء ساعة واحدة لا يتمكنَّ معها من حضور صلاة الجمعة، وتناول وجبة الغداء، ولا استبدال ملابس العمل بآخر شرعي في آنٍ معًا.. وأنَّ خطبة الجمعة طويلة، فتنقضي ساعة الغداء، ويعدن إلى العمل جائعات منهكات.. ومنها أيضًا الحديث فيها عن ضرورة الفصل بين الرجال والنساء حتَّى في العمل.. مطلب لا يمكن تحقيقه.. أذكر أنَّ إمام المسجد في تايببه، صينيٌّ أتقن العربيَّة، ودرس الشريعة في مكَّة المكرَّمة، كان قد زارني في السفارة يشتكي من المسلمات الصينيَّات، وأنَّه لا أمل في إصلاحهنَّ! أشرت عليه باقتصار مدَّة خطبة الجمعة والصلاة إلى عشرين دقيقة.. وأن يدعو لصلاة جماعة يوم الأحد، يوم عطلة، وقد يطيل الخطبة بما يتناسب وموضوعها لو شاءَ.. وبالنسبة إلى اللباس الشرعي، وعدته بتأمين مئة شرشف صلاة من المملكة، يغطي الرأس وكامل الجسد.. وبعد الصلاة ترسل الشراشف المستعملة إلى المغسلة، لتنظيفها وتعقيمها وتُعاد مغلَّفة ببلاستيك لتستعمل في صلاة ظهري يومي الجمعة والأحد من كلِّ أسبوع.. وافق الإمام، ووفيت العهد، ووصلت الشراشف بالبريد المستعجل بعد أيَّام من طلبها.
أمَّا عن طلبه الفصل بين الجنسين فذكَّرته باختلاط الجنسين في الطواف، وفي إداء شعائر الحجِّ والعمرة.. وبالنسبة إلى اللغة العربيَّة وقراءة القرآن الكريم، أحضرت لجمعيَّة مسلمي تايبيه أشرطة فيديو باللغة العربيَّة، توضح طريقة الوضوء والصلاة وتلاوة قصار السور.
وبما أنَّني في هذا المقال استعيد ذكريات من أيامي الأُول في تايبيه، أودُّ التنويه بأن سكان جزر تايوان يعتزون بقوميتهم، ويرفضون عدَّها تابعة للبرِّ الصيني.. وهم يتظلمون من حكم الجنرال تشان كاي شيك الصيني الذي هرب من البر الصيني إلى تايبيه بعد استيلاء الحزب الشيوعي على مقاليد حكم البرِّ الصيني مع عدد من أنصاره، ويتَّهمونه ومن حلَّ معه في تايبيه من الحاشية والأنصار بالفساد وسرقة المال العام، وأنَّهم عملاء للولايات المتَّحدة الأمريكيَّة التي أوصلتهم إلى سدَّة الحكم.. وفي جلسات خاصة مع أُدباء ورجال فكر تراهم يتحدَّثون بإسهاب عن تاريخ تايوان وحضارتها وثقافتها وكونها نسيج قائم بذاته غير تابع.
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
