Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
فاتن محمد حسين

المخطئ.. والصفح الجميل

A A
‏ميز الله سبحانه وتعالى الإنسان عن سائر الكائنات بالعقل، ليُحقِّق الخلافة في الأرض، وهي دار ابتلاء؛ يبتلي الله العبد بشتى ‏أنواع الابتلاءات، كما في قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ..)، فالصبر على البلاء من أعظم أنواع العبادات التي يُبشَّر بعدها الإنسان: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

ومِن حِكمةِ اللهِ تعالى أنَّه يَبتلي عِبادَه ويَختبِرُهم؛ لِيَعلَمَ المؤمِنَ المطيعَ الراضيَ مِن العاصي الساخطِ، حيث يقول تعالى: (وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ)، وعن عليٍّ رضي الله عنه أنه قال: «إن اللهَ يقضي بالقضاءِ فمن رضي فله الرضا ومن سَخِط فله السُّخْطُ». والشيطان يجري في الإنسان مجرى الدم، فكلنا نخطئ، ومن منَّا معصوم من الخطأ؟!، والرسول صلى الله عليه وسلم أكد على ذلك في قوله: «كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون». وليس المقصود من ذلك أن الإنسان يقع من نفسه بالخطأ، ويقول إن الله تواب رحيم..!! ولكن حينما يقع في الخطأ بدون إدراك العواقب، ولديه أسباب قوية لربما أدت إلى الخطأ؛ فإن استغفار العبد هنا من أعظم العبادات، فالله يُحب التوابين، ويُحب المستغفرين الذين لم يصرُّوا على ما فعلوا، بل أدركوا الخطأ، واعتذروا وتابوا إلى الله، وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ، فَيَغْفِرُ لهمْ».

فالمخطئ حين يُخطئ لا يشعر بالخطأ، وهذا من الأمور الثابتة، فإذا كان الله هو الغفور، وهو التواب الرحيم، فلماذا يشطط العباد في عدم العفو والصفح عمن أخطأ، في حين ‏أن الله سبحانه وتعالى يقول: (‏وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، فالعفو عن الناس عند الخطأ من أعلى مراتب الأخلاق، بل وأعلاها جميعاً، لأنه يصل إلى مرتبة (الإحسان) للمخطئ، وتقربه لله بذلك، فينتقل من مرتبة الإيمان بالقضاء والقدر، إلى مرتبة الإحسان، «‏وأنَّ ما أصابَكَ لم يكن ليخطئَكَ وما أخطأكَ لم يكُن ليصيبَكَ».

‏وحتى وإن حدثت الأخطاء على مستوى الأسرة، أو العلاقات الأسرية أو في العمل، -والخطأ سلوك بشري وارد-، فكيف نتعامل معه دون ضرر، ونجبر دون كسر، ونقوي المخطئ الضعيف ونزيل الخلل دون هجر، ولا نفرق الشمل، ولا نشطط ولا نبالغ بالعقوبة بإهانة الطرف المخطئ والتوبيخ والإذلال له؛ فاللوم الشديد والإهانة توغر الصدور، وتهدم البناء، وتحطِّم كبرياء النفس، وتحطِّم أواصر المحبة والصداقة بين الناس. بل لابد من دراسة أسباب الخطأ، وكيفية معالجتها، وتدوين الدروس المستفادة من الأخطاء، وتجنب الوقوع فيها مستقبلا. ‏وعلى المخطئ عدم جلد الذات وكثرة اللوم والعتاب لنفسه فيُحبطها، فالخطأ ‏البشري وارد عند الجميع، بل معالجة الخطأ والقيام بالاعتذار -دون مبالغة- هو أسلوب يمتص الغضب، ويُكسب الفرد المزيد من الثقة، ويُظهر مدى تحمّله ‏للمسؤولية بالإصلاح الفوري، سواء كان مادياً أو معنوياً أو إدارياً، وهذا فيه إصلاح النفس وتطييب الخواطر، ‏بل وضع الأمور في نصابها، فلا نُضخِّم المشكلة، ولا نُقلِّل منها، ولا نترك أنفسنا فريسة لليأس والإحباط، بل البحث عن ‏الطريق الصحيح لحل المشكلة، حتى لا يُؤثِّر ذلك سلباً على صحتنا النفسية والجسدية. ‏بل لابد من التذكير بإستراتيجية (التقمص)، وهي وضع الإنسان نفسه مكان المخطئ، والتفكير في الأسباب والدوافع التي ربما هو نفسه قد وقع فيها، ‏وكيفية تقبُّل الآخرين له بدون مبالغة في ردة الفعل. لأن التنمُّر ‏ضد المخطئ والتهديد بالانتقام ‏ليست ‏من شهامة المرء وسلامة الصدر ‏وطيب المعدن، بل هي فجور في الخصومة، والاستغراق في الحقد الذي يُورد الإنسان ومن حوله المهالك، ويؤدي إلى التفكك الاجتماعي.

‏وما أروع ديننا الإسلامي الحنيف الذي يحث على الصفح الجميل، حتى مع المشركين؛ ‏فعند حدوث الخطأ، فإن الأسلوب وانتقاء الكلمات لتصحيح ‏الخطأ مهم جداً؛ فإن من البيان لسحرا، ‏والكلمات اللطيفة تدخل القلب وتعالج الخطأ، ونبرة الصوت الحانية والابتسامة ‏وحسن التعامل هي تأشيرة الدخول لقلب المخطئ وإصلاح كل خطأ وقع فيه.


contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store