Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
فاتن محمد حسين

هل أصبحت الدية اتجاراً بالبشر؟!

A A
‏تنتشر بين الحين والآخر مقاطع مناشدة ونداءات مكتوبة لإكمال دية فلان من والدة أو والد القاتل، وطلب المساعدة لابنهم المسجون، والذي سيُقام عليه القصاص نتيجة قتله لشخص آخر، واستجداء واستعطاف ‏المجتمع - الذي هو أصلاً مجتمع محب للخير - فيدفع البعض ولو كان بهم خصاصة استجابةً لنداء واستحلاف بالله، حتى لا يقصون رقبته ابنهم.

‏من وجهة نظري أن القضية ذات أبعاد متعددة، فالموت هو قضاء الله وقدره، وهذا إيماناً لا مفر منه، وكما قال الشاعر يوماً:

من لم يمت بالسيف مات بغيره

تعددت الأسباب والموت واحد!

ثانياً معظم حالات طلب الدية عن شباب في سن 18 - 25 سنة، وهذا هو سن التكليف الذي يُعاقب عليه القانون شرعاً، وغالب حالات الدية ناتجة عن العنف، فالضرب بحديدة ‏على الرأس، أو إطلاق نار، أو أسلحة بيضاء، أو حتى الدفع بقوة فيرتطم الرأس في الأرض، وربما تحدث الوفاة حالاً أو بعد حين.. وسواء كان القتل متعمداً أو غير متعمد، فإن النتيجة إنهاء حياة، فيطلب أهل المقتول القصاص العادل.

والله سبحانه وتعالى يقول: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)، فالقصاص يؤدي لحياة فيها أمن وطمأنينة واستقرار، وليس إرهابا وترهيبا للناس.. كما يقول عز من قائل في موضع آخر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنثَى بِالْأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ..)، فالآية تخاطب المؤمنين، وتطلب العدل في القصاص، وسبب ذلك كان إذا قتل النضري القرظي لا يقتل به، بل يفادى بمائة وسق من التمر، وإذا قتل القرظي النضري قتل به، وإن فادوه فدوه بمائتي وسق من التمر، ضعف دية القرظي، وفي هذا ظلم، فأمر الله بالعدل في القصاص؛ لأنه إنما وجد لتكفير الذنب للقاتل أولاً، ثم لحماية المجتمع من ‏المفسدين، حتى تستأصل جذور الجريمة، لأن أحداً من الآخرين لن يقوم بارتكابها مرة أخرى، نظراً للعاقبة الوخيمة التي لقيها أحد أفراد المجتمع؛ والعبرة بعدم ارتكاب الجرائم التي تخل بأمن المجتمع، وفي هذا صون للحقوق.

‏فالعفو عن القاتل، كما رأينا في بعض الحالات، ومنها مؤخراً ما شهده صاحب السمو الملكي الأمير تركي بن طلال، أمير منطقة عسير، من عفو مواطن عن قاتل ابنه، وتم الوصول للتنازل لشفاعة الأمير، وفي هذا أجر عظيم عند الله، وحتى ولو طلب الدية، فإنها تكون أيضاً بالمعروف.

أما أن تصبح الدية سوقاً للتكسُّب، فهذا غير مقبول، فالله سبحانه وتعالي يقول: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، لكن رأينا تدخل العرقية، ففلان من قبيلة كذا، وديته خمسة ملايين، وقبيلة أخرى تطلب 1٠ ملايين، ‏أو 20 مليوناً.. وهكذا، فإذا كان الألم الذي يُصاحب الإنسان لفراق ابنه لا تُعوضه أموال الدنيا كلها، فليأكل بالمعروف أيضاً، ولا تكون هناك مبالغة في الطلب.

لكن السؤال: ‏لماذا لا تُحدِّد هيئة كبار العلماء حداً أعلى للدية، كأن تكون مثلاً في حدود المليون كحد أعلى، حتى لا تكون الدية صورة من صور الاتجار بالبشر، أو ربما ‏عودة للجاهلية في المبالغة في إظهار القوة، أو أنها تساهم في عمليات غسل أموال وغيرها.

ثم هناك نقطة أخرى، وهي أصل المشكلة، «العنف» الذي أصبح متفشياً في المجتمع، وطيشاً من الشباب، سببه فشل التربية الأسرية والمدرسية في زرع قيم التسامح وحسن الخلق في نفوسهم، وعدم الغضب، فالرسول حينما جاءه الأعرابي وقال له أوصني: ‏قال: (لا تغضب)، وكررها ثلاثًا، لأن الغضب أصله؛ تملك الشيطان للإنسان، فحتى حينما تعرض موسى عليه السلام لقتل شخص: (قَالَ هَٰذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَان إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ).

فلماذا لا تكون مناهجنا المدرسية وبرامجها تحث على ‏العفو وعدم الغضب والإعراض عن الجاهلين، بل والإحسان إليهم، وجعل الرياضة المدرسية أسلوباً في التربية لامتصاص طاقات الشباب وعنفوانه، وتوجهها ‏الوجهة الصحيحة، وبذلك نتجنب الكثير من المشكلات ‏التي أصبحت تؤرق الإدارات المدرسية والمحاكم العدلية، ‏وأن تكون الأسرة الحضن الدافئ للأبناء وتوجههم من خلال النقاش الهادف.. وبذلك نحد ‏من مشكلات العنف التي تؤدي للقتل والدية وغيرها.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store