Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد بشير كردي

وما يوم يمر بمُستعاد

A A
كان في شهر صفر، والجهة مقرَّ عملي الجديد في طوكيو؛ ملحقًا إداريًّا في سفارة بلادي لدى إمبراطورية اليابان، حط بي الرحال في المحطة الأولى من مشوار الاغتراب الذي استمر قرابة الأربعين عامًا.. واليابان كانت نهاية التجوال.

ودَّعت الوالدين والأهل في المدينة المنورة، قاصدًا مع أُمِّ البنين والطفلين، أُسامة، وله من العمر أربع سنوات، وأيمن سنةً واحدة، دمشق لتودِّع والديها... ومنها إلى بيروت التي كانت عروس البحر الأبيض المتوسِّط، وقِبلة رجال المال والأعمال، وطلَّاب العلم والمعرفة، وقاصدي العلاج والدواء، وعشَّاق السياحة والاستجمام.. ومن المطار، بسيَّارة أُجرة (تاكسي) إلى فندق فينيسيا على الروشة.. وفي جناحٍ مُعدٍّ بأفخم الأثاث، والخدم حولنا لتلبية طلباتنا مقابل ليرة لبنانيَّة واحدة إكراميَّة لمن فتح باب التاكسي ومثلها لحامل الشنط من التاكسي إلى مدخل الفندق.. ثمَّ لاثنين رافقانا إلى ركن الاستقبال، واثنين آخرين رافقانا إلى الجناح، وغيرهما قدَّما زجاجة الماء، وكؤوس المرطِّبات.

في الصباح، قصدنا صالة الطعام، وعلى مائدتها كلُّ ما تشتهيه النفس من عصائر طازجة، وفاكهة وأجبان بعضها لم يسبق لنا أن تذوَّقناها، وأنواع من الزيتون والمربَّات والعسل والقشدة واللحوم الباردة المدخَّنة، والسجق والبصطرمة والبيض بطرق طهيه المتعدَّدة، والفول المدمس، والحمص بالطحينة والمخلَّلات والفاكهة المجفّفة وأشكال متعدِّدة من الخبز العربي والإفرنجي، وركوة القهوة، وبرَّاد الشاي.. كلُّ ذلك مع فاتورة الجناح ثلاثون ليرة لبنانيَّة!

بعد الفطور، قصدت سفارة المملكة لتوديع الزميل الأستاذ جميل قنديل، وكان قد باشر عمله فيها حديثًا.. ومن هناك تمشية على كورنيش الروشة المكتظ بعشَّاق رياضة المشي والهرولة، وهواة صيد السمك بالسنَّارة التي تعلِّم الصبر والأناة.. ومن هناك عودة للفندق، وإتمام إجراءات المغادرة في قسم الاستقبال، ثمَّ في التاكسي ثانية للمطار، فركوب طائرة (بان أمريكان) إلى طوكيو.

عادت لي ذكريات يومٍ في بيروت عام 1963، وأنا أقرأ مقالًا للإعلاميَّة اللبنانيَّة زيزي اسطفان، بعنوان: «إلى السبعينيّات دُر- التقدُّم إلى الوراء»، أنقل منه فقرات، كما تسلَّمته لأخذ العبرة والتفكُّر... والحفاظ على النِّعم من الضياع: (خمسون سنة نقلت اللبنانيِّين من الجنّة إلى النار).

«كان يا ما كان.. كان في بلد اسمه لبنان.. صنَّفوه في الستينيَّات على أنَّه رابع أكثر الدول ازدهارًا في العالم.. وجاءت بداية السبعينيَّات لتتوِّج مسيرة الازدهار، وتجعل من لبنان مضرب مثل في التقدُّم والرخاء ورغد العيش.. حينها كان لبنان ماسة مشعّة تبهر بوهجها الشرق والغرب، وتعمي الأبصار عن شوائب وتصدُّعات تنخرها من الداخل.

كان اللبنانيُّون يعيشون الوهج بكلِّ جلاله، ويشعرون بلسعاته أحيانًا، لكنَّهم لم يستشعروا يومًا أنَّهم بعد سنوات قليلة سيكتوون بناره.. وبعد خمسين سنة سيرتمون معه في الهجرةً، أملًا في الحصول على فرص عمل توفِّر حياة أفضل.

أهمُّ تجَّار السياسة، وقد ماتت ضمائر العديد منهم، أم تجَّار الطائفيّة والمذهبيَّة الذين اختاروا العمالة للقوى الطامعة في السيطرة على العالم العربي، وهدم ثوابته الدينيَّة والقوميَّة، أو كليهما معًا، والله أسأل أن يلبس لبنان ثوب الصحَّة والعافية، ويعيده لأسرته العربيَّة التي أبعدوه عنها -لغرض في نفس يعقوب- سالمًا متعافيًا كما عهدناه قبل خمسةِ عقود، ونعود إليه ننعم بما أفاء الله عليه من ماء وخضرة وطيبة معشر وكرم».

مع تفاؤل الكاتبة، ورجاء أن يستجيب الله، ويعود لبنان كعهدنا به، لكن على أهله شكر الله على ما خصَّهم به.. وألَّا ينسوا: (الفرد -مهما ادَّعى- بنفسه قليل، وبجماعته كثير).. هي سنَّة الله في خلقه.. ومن حاول الخروج عن محيطه انتهى بلا محيط... (وما يومٌ يمرُّ بمُستَعادِ).

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store