Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محمد بشير كردي

من مدينتي المنوَّرة

A A
عادت بي الذاكرة قديمًا إلى دكَّان في شارع العينيَّة وضيوف الرحمن من مختلف الجنسيات والأعراق يصلون المدينة المنوَّرة قادمين من مكة المكرمة مرورًا بجدة، ويتركون مركباتهم في (ساحة المناخة) للسلام على سيدنا المصطفي ونبينا الكريم محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام.

كانت (ساحة المناخة) تضم ثلاثة أقسام، هي: (مناخة ديرو، وميدان المناخة، ومناخة الحطب)، وتقع جنوب غرب المسجد النبوي الشريف في منطقة مركزيَّة تتوسط أحياء المدينة المنوَّرة، وتفصل بينها وبين الجزء القديم الذي يضم المسجد النبوي وبين الأحياء المحيطة به.. وتبتدئ حدوده من مسجد الغمامة جنوبًا إلى قلعة باب الشامي شمالًا.

وكان سوق المدينة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقع في جزئها الجنوبي الذي كان يطلق عليه آنذاك: (الزوراء والبطحاء وبقيع الخيل، وبقيع المصلَّى).. وجرى عُرفٌ ألا يقام فيها بناء ثابت، حتى إن المتاجر وعشة المحتسب كانت كلها مبنية على شكل عشش وصنادق بحيث تسهل إزالتها.. وبقيت سوقًا عامًّا ومناخ جمال الحجيج.. كان قرار امتناع البناء تمشيًّا مع ما أمر به أمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب رضي عنه لجعلها وقفًا للمسلمين.

وما إن ينعطف زوَّار بيت رسولنا الكريم باتجاه شارع العينيَّة، ويظهر في نهايته الحرم النبوي الشريف بقبته الخضراء حتى تسود حالة من خشوع وطمأنينة، فتلهج الألسن لله عز وجل وهم على وشك الوصول إلى هذا المقام الشريف.. ويصدح القادمون من مصر بالأناشيد الدينية والموشحات، وتطلق النساء حناجرهن بالزغاريد وهن يؤدِين رقصًا جماعيًّا حتى يصل موكبهم (باب السلام).. يدخل الرجال والنساء باتجاه المواجهة الشريفة، مسلِّمين على صاحب البيت وعلى خليفتيه (أبو بكر الصديِّق وعمر بن الخطَّاب) رضي الله عنهما.. ويؤدون ركعتين حمدًا وشكرًا لله.. ثمَّ يخرجون من الحرم ويستقبلهم الأدلَّاء لإيصالهم إلى بيوت الإقامة قرب زائري أهل بلدهم.. أما أهل بيت الضيافة، فكانوا يقيمون في غرف على الأسطح، موفرين إقامة مريحة لضيوفهم.. من هناك، يصطحبهم الأدلاء إلى (بقيع الغرقد) للسلام على من تحت ثراه من آل بيت الرسول وصحبه الأكارم ومن سبقهم إلى دار الخلود.. ومن البقيع إلى المساجد الخمسة الأثرية، فسفح جبل أُحد للسلام على سيِد الشهداء سيِدنا حمزة عم الرسول وصحبه، ومن هناك إلى سوق التمور والسبح والهدايا من سجاجيد الصلاة والحليِّ من فضة وخزف، ثم يتابعون إلى شارع العينيَّة ومعارضه بمنتجات العالم الصناعية والحرفية والأجهزة الكهربائية والمنزلية.. كان الشارع أعظم ما في المدينة المنورة حيث جميع دكاكينه وأروقته مبنية بالحجر، كما أن أرضيته مرصوفة بالحجارة أيضًا.. ويؤدي إلى (ممر سويقة) الذي يعرض الأقمشة متعددة المصادر والنوعية ومتطلبات الخياطين للملابس ولوازم السيدات من أدوات الزينة والتجميل بما فيها العطور المحلية، وفي مقدمتها (عطر الورد المديني والفل) والعطور المستوردة.. يمتد الممر من (ساحة باب السلام) أمام الحرم النبوي الشريف إلى (باب المصري)، وفي زاويته صيدلية عطارة تلبي طلبات زوارها على مدى ساعات النهار.. وفي ساعات الليل، تغطى المعروضات بستارة من قماش، وتحتها قراطيس تحتوي أعشابًا ومركَّبات أدوية للحالات الطارئة.. وبجانب كل قرطاس طرق استعمال محتوياته، وقيمته لتودع في علبة مكشوفة.

في الخروج من (بوابة السور) مجمع الأسواق الشعبية التراثية، ومنها أسواق (القطَّانة والحبابة والتمارة والسمك والطباخين والعيش والعلف والبرسيم، وبائعي احتياجات البادية ومنتجاتها، السمانة)، مع (دكَّان آل الخريجي لبيع السكَّر والشاي والبن والهيل ولوازم المطبخ)، إضافة إلى مخازن لوازم البناء والصيانة.. بكل ذلك كان (شارع العينيَّة)، وممر سويقة وساحة باب المصري تضاهي الأسواق العالمية الكبرى المنتشرة هذه الأيام في المدن والبلدان.

هذه أحبتي (مدينتي المنورة) التي اختارها رسولنا الكريم وطنًا ينشر منه رسالة الإسلام.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store