Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

ثنائية الحُب والموت

ثنائية الحُب والموت

A A
يراودني أحياناً هذا التساؤل؛ هل الحُب كالحياة فجأة يدركهُ الموت؟ وهل لثنائية الحب والموت نقطة التقاء؟ بمعنى أيمُر الحب بدورة حياة من الميلاد إلى الشيخوخة ومن ثمَّ يلتقي بالموت ويلفظ أنفاسه الأخيرة بين يديه؟ بعيداً عن كلمات العشق وغزل الكلام الفارغ الذي اجتاح عالمنا الواقعي والافتراضي بسرعة هائلة فاقت سرعة الضوء، وفي زمن كثُر فيه الاستخفاف بهذه الكلمة العميقة «أحبك» ففقدت معها مصداقيتها وقدسيَّتها فإذا بها تموتُ في الشفاه قبل أن تولَد! وكثر استغلالها فتدنّست بالنوايا الخبيثة المُختبئة داخل أوشحة المشاعر الكاذبة. ما هو الحُب؟

الحب لا تفسير واضح له فهو كالسِحر؛ يجتاح خلايا الجسد ويضخُّ فيه موجات مشاعرية حالمة تطير بصاحبها فوق السُحب وتعجز الجاذبية الأرضية أن تعيده إلى سيطرتها، وكغيمة تطوف في السماء فتترك كل البشر وتنهمر على قلب ذلك المُحِب وتُغرقهُ بالحياة، الحب إحساس عميق يستولي على كل فكر الإنسان ويستوطنه بقوة ويحتل أركان قلبه ويُصبح تحريره من هذا الاحتلال الحالم مستحيلاً. وأعظم أنموذج جسَّد للبشرية المفهوم الحقيقي للحب هو نبي الرحمة محمد صلى الله عليه وسلم حين وصف حبه العظيم لخديجة رضي الله عنها فقال «إني رُزقتُ حبها» فالحب معجزة يقذفها الله في قلوب المحبين ورزق عظيم لا يناله كل البشر، فإن شعرت بذبذبات الحب تدغدغ ثنايا قلبك فتيقن أنك من الصفوة الذين اختارهم الله ليعيشوا السعادة الدائمة، فالحب مشاعر لا تُختار ولا يمكن فك طلاسمها فهي من أسرار الروح المرتبطة بالله، والخالية من الغرائز والمصالح الدنيوية المؤقتة فهي قائمة على بُنية قوية من الأحاسيس الصادقة التي يستحيل أن تُهدَم؛ فالحب الروحي لا يموت بل يسكن داخل الروح ويستمر معها حتى الدار الآخرة ويستقر تحت ظل العرش.

إذاً فالحب والموت خطان متوازيان لا التقاء بينهما، والعلاقة التي تربطهما هي علاقة قيمية لا أكثر كما وصف ذلك الفيلسوف الوجودي والكاتب المسرحي -ألبير كامو- حين قال «ثنائية الحب والموت كلاهما ضروري لتعريف الآخر، فالموت هو ما يُعطي للحب شكله مثلما يعطي للحياة شكلها محولاً كل ذلك إلى قدر، فإذا ماتت المرأة التي تحبها فحبك لها سيبقى ثابتاً إلى الأبد، ولولا تلك النهاية لتلاشى، ولولا الموت لكانت الحياة سلسلة من الأشكال المتلاشية» الموت لا يقتل الحب بل يُضفي له قيمة ولا يؤثر على أبديته.

إذاً لماذا يتغير الحب ويذبل حتى الموت؟ لأنه لم يكُن حباً حقيقياً منذ البداية، فتلك المشاعر الباهتة لم تتغير بل عادت إلى نسختها الأصلية السوداء بعد أن اُرهِقت من الاختباء خلف قناع البياض المُمزق، فالحب الذي يدركهُ الموت هو الذي بُنيَ على الوهم وارتبط بالغرائز أو المصالح الدنيوية وانتهى بانتهاء تاريخ صلاحيتها، أما الحب الروحي المتجذِّر في أعماق الروح لا يفنى أبداً ولا تعتريه عوامل الزمن، ولا يتلاشى مع الموت.

برأيي؛ أن ثنائية الحب والموت منفصلة تماماً وبينهما برزخٌ لا يلتقيان، فالموت حالة انتقالية مؤقتة تفنى بفناء الحياة الدنيا وانتهائها، أما الحب فحالة مشاعرية ثابتة تبقى مادامت الروح باقية، فالحب الروحي مُمتزج بالروح التي لا تموت بل تنتقل بين الحَيَوات حتى تستقر للأبد.

الحُب والموت خطان متوازيان لا التقاء بينهما، فالأول خُلِق للبقاء والآخر خُلِق للفناء.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store