Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

في الاختبارات.. اكتب حتى أراك

A A
كان القلم -في قاعة الاختبار- يدفع بحبره على بياض الصفحات، فيُروِّيها بالإجابات التي تحمل كمًّا وافرًا من الأفكار والإبداعات والتجليات والمعلومات الوافية، مستلهمًا ذلك من ذهنية صاحبه المتوقدة، التي مزجت بين الذكاء والفهم والاستظهار، حتى استوفت تلك الذهنيةُ أغراضَها، وأبانت بحبر القلم خلفيات صاحبها (الطالب) ورؤيته، وحددت مدى فهمه واستيعابه للمادة التي تلقاها، عندها فقط كنا نقول إن هذه الإجابات تُعَبِّر عن صاحبها تعبيرًا صادقًا. الاختبارات إنما وُضِعت لتقيس مدى تمكن الطالب من الإلمام بمحتوى المقرر الدراسي واستيعابه لمستهدفاته، والاختبارات التي كانت تُعد هي المقياس الأوفى والمحك الأصدق لقياس تمكن الطالب واستيعابه هي (الاختبارات التحريرية)، التي تتطلب من الطالب أن يطرح رأيه ويبسط وجهة نظره ويعبر (كتابيًّا) عن تصوره، ويدوِّن ما فهمه واستوعبه، ويقيِّد ما استظهره، ويحلل ويفكك ويطبق، وكل ذلك يكشف بشكل جلي وصادق عن ما يكتنزه الطالب، ويعطي تصورًا واضحًا عن استحقاقه للانتقال أو البقاء. في الآونة الأخيرة بدأت الاختبارات التحريرية تختفي تدريجيًّا من أسئلة الكثير من المعلمين؛ ربما لأنها تحتاج لمجهود أكبر من المعلم إعدادًا وتصحيحًا، وربما لأنها تحتاج وقتًا أطول للإجابة، وربما أن سوء خطوط الطلاب وضعف إملائهم جعلت المعلمين يعرضون عنها. ما يحصل اليوم يعد تحولاً جذريًّا في مفهوم الاختبارات وطرائق صياغتها وتقديمها للطلاب؛ فالاختبارات لم تعد -في أكثرها- مقالية، بمعنى لم تعد تتطلب أن يحرث قلمُ الطالبِ ورقةَ الإجابة، ليسطِّر ما تجود به عقليته ويُعزِّزه فهمه ويرفده استظهاره، أقصى ما يمكن أن يقوم به الطالب هو وضع علامة (صح أو خطأ) أمام السؤال، أو (تظليل) الدائرة التي يراها تناظر الإجابة الصحيحة. هذه الاختبارات السريعة ربما أنها اختصرت زمن الإجابة وزمن التصحيح، لكنها افتقدت للحُكم الصادق على قدرة الطالب واستيعابه للمادة، وافتقدت لكشف ما لديه من قدرات في تسلسل الإجابات وتنظيم المعلومات، وطرحها بشكل ينم عن قدرة وموهبة واستيعاب.

نعم، هذا النوع من الأسئلة -في مقرر الرياضيات مثلاً- قد لا يخلو من لجوء الطالب لإجراء عمليات حسابية خارج ورقة الإجابة حتى يتوصل للإجابة الصحيحة ثم يختارها من بين الإجابات المعروضة أمامه، لكن كل هذا لا يعلم عنه المعلم شيئًا، ولا يعلم هل صحة الإجابة أتت نتيجة عمليات سليمة قام بها الطالب، أم هي ضربة حظ؟، وكذلك مقرر قواعد اللغة العربية لا يصلح الحكم على تحصيل الطالب فيه إلا من خلال الأسئلة المقالية؛ فالمعلم بحاجة لمعرفة قدرة الطالب على التمثيل على المفهوم المطلوب، وبحاجة لمعرفة قدرة الطالب على ذكر الموقع الإعرابي (كاملاً) لكلمة ما، وبحاجة لمعرفة قدرة الطالب على إعراب الجمل التامة، وهو الأمر الذي يتطلب منه الكتابة والتدوين لبيان العلاقات الرابطة بين الكلمات التي يتشكل في ضوئها الموقع الإعرابي لكل كلمة، وبحاجة لاستخراج المطلوب من القطعة المطروحة أمامه، وحينما يُترك كل ذلك -سواء في الرياضيات والقواعد والإملاء أو في بقية المواد العلمية- للتخمين والاختيار، فهذا لا يقيس قدرة الطالب بالشكل المطلوب.

في الرياضيات -مثلا- قيام الطالب بالتسلسل الصحيح لإجابة المسألة الرياضية، حتى وإن أخطأ في الرقم الأخير الذي يمثل الجواب، فإن هذا يُعد محاولة جيدة تستحق بعضًا من الدرجة الكلية، وكذلك في القواعد وخاصة في إعراب الكلمة، لكن في اختبارات الصح والخطأ أو التظليل يغدو الطالب أمام (أسود أو أبيض)، ولا يعلم المعلم عن محاولات الطالب وأفكاره شيئًا. لذلك تبقى الاختبارات المقالية من الأهمية بمكان؛ فكما أن الطالب الذي وقف أمام سقراط لم تنفعه زينته، لذلك لم يره سقراط؛ كونه (لم يتكلم)، فكذلك الطالب في الاختبارات؛ حيث لا تُعطي الإجابة بـ(الرموز) تصورًا وافيًا عن تحصيله الدراسي كونه (لم يكتب).

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store