Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. علي آل شرمة

الحكمة تسطع في مجتمع نجران

A A
مرة أخرى يضرب مجتمع نجران مثالاً راقياً في التقيُّد بسيادة القانون والانصياع للأنظمة المرعية، ويؤكد أنه مجتمع مترابط يتمتع بشيوخه وكباره الذين أكسبتهم الأيام حكمة عظيمة، واستفادوا من تجاربهم الواسعة وخبراتهم المتراكمة في تقديم دروس عملية للحفاظ على قوة نسيجهم الاجتماعي، والنأي به عن كل ما يمكن أن يُعرِّضه للتدهور، أو يُشكّل خطراً على وحدتهم واستقرارهم.

فخلال الأيام الماضية فجع مجتمع نجران بمقتل أحد الشباب في ظروفٍ غامضة، وبينما كان الجميع في مجلس العزاء يعيشون حالة الصدمة والحزن الشديد؛ فوجئ والد القتيل، الشيخ علي بن رفعان المحامض، بأن هنالك شخصاً يطلب مقابلته خارج مجلس العزاء. في البداية خطر بباله أن ذلك الشخص يريد أن يُقدِّم واجب العزاء، أو أنه يُريد طلب أمر ما، وعندما ذهب وجد رجلاً بادره بالتحية واعترف له بأنه قاتل ابنه.

رغم صعوبة الموقف وهوله، لا سيما أنه متعلق بفقدان الرجل لأحد أبنائه، ورغم وجود عشيرته من ذوي القتيل الذين كانوا يشعرون بطبيعة الحال بالحزن الشديد، إلا أن الرجل الحكيم الذي تشبَّع بالحكمة والبصيرة والعقل النافذ؛ لم ينجرف وراء تيار الأحزان. فحافظ على هدوئه وتماسكه، ورحَّب به، وقام بتوفير الحماية له بلا تردُّد.

كذلك فإن القاتل - رغم خطئه - إلا أنه عاد إلى رشده وقام بالفعل الصحيح عندما ذهب بنفسه إلى عائلة القتيل واعترف لوالده بجريمته، فبادله الأخير ذات الموقف الكريم عندما سيطر على أعصابه وكظم غيظه وهزم نوازع الغضب، فاحتضنه بروحٍ أبوية صادقة، وتعهّد له بحمايته والحفاظ على حياته، وهو ما قام به بكل شهامةٍ ونخوة، حيث أبلغ الحاضرين بما حدث، ومنعهم بصرامة من محاولة الاقتراب منه، أو أن تمتد إليه أياديهم بسوء، مؤكِّدا أن العدالة سوف تأخذ مجراها. وظل الشاب في أمان حتى حضرت الدوريات الأمنية فقام بمرافقتها حتى تم تسليمه لمركز الشرطة.

لم يكتف الشيخ علي بن رفعان المحامض بذلك الموقف النبيل، بل استقبل قبيلة القاتل بكل كرمٍ عندما حضر شيوخها، وقدَّموا واجب العزاء، فقَبِلَ مواساتهم، وأعفاهم من الحيرة، ورحَّب بهم قائلاً: إن هذا قضاء الله وقدره، مشيراً إلى أننا نعيش في ظل دولة تُطبِّق شرع الله وتحفظ الحقوق، وتحرص على وحدة المجتمع وتماسكه. كما حذَّر الشباب من التهاون في حمل السلاح، ودعا إلى اللجوء للجهات الأمنية والقضائية عند النزاع والخصام، مؤكِّداً أن المملكة دولة قانون؛ وأنها سوف ترد للجميع حقوقهم.

هذا الفعل العفوي الصادق يُوضِّح الالتزام بالقوانين، والخضوع للأنظمة، والتقيُّد بالتشريعات واتباع الجانب المشرق لتعاليم القبيلة وتقاليدها الراسخة، التي لا تتضارب مع النظام، بل تتوافق معه وتُكمله، وهو ما يُؤكِّد تمسُّك مجتمع نجران بعاداتهِ الأصيلة التي توارثها أبناؤه أبًّا عن جِد، وأنهم منظومة واحدة متكاملة يقودها الشيوخ بحكمتهم العريقة، ويتجاوب معها الشباب بعقولهم النيِّرة، ويسيرون في الطريق الذي اختارته قيادتهم الرشيدة.

وللحقيقة ومن باب الإنصاف، فإن سمو أمير منطقة نجران الأمير جلوي بن عبدالعزيز بن مساعد بذل خلال السنوات الماضية جهوداً كبيرة في سبيل ترسيخ مثل هذه المواقف المشرقة، وقام بدورٍ مشهود لضمان السلم والأمان في المنطقة، ولم يدّخر جهداً في سبيل تحقيق كل ما يُؤدِّي إلى استتباب الأمن والاستقرار، وظل يحرص باستمرار على نزع أسباب البغضاء والشحناء، تنزيلاً لمبادئ الدين الإسلامي الحنيف الذي يدعو إلى الامتثال لحكم القانون.

أُكرِّر الإشادة من جديد بمروءة الأب الشهم الكريم، الذي لم تمنعه مشاعر الحزن من القيام بفعلٍ عظيم مُستَمَد من تربيتهِ الأصيلة ونشأته الصالحة، فأعلن رفضه أخذ الحق باليد والرضا بحكم القانون، وهو تصرُّف نبيل وكريم يُؤكِّد أنه متشبِّع بقِيَم المروءة وأخلاق الفرسان، وأنه لا يرضى بإيذاء مَن طرق بابه وجاء إلى داره وطلب حمايته، وهذه هي أخلاقنا في هذا المجتمع السعودي الذي تربَّى أفراده على تعاليم الإسلام الصحيحة، وقِيَم العروبة المليئة بالنخوة والكرم والمروءة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store