Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

اختر من تحاور!

اختر من تحاور!

A A
اختر من تُحاور؛ فالحوار الواعي يهب الإنسان جناحين أحدهما التأمل والآخر الفكر، ليحلّق بهما في فضاء الكون النيّر ويتلذّذ باكتشاف خباياه، يُسابق الزمن بسنواتٍ ضوئية سريعة يتجاوز بها أقرانه ويعيش حياة أخرى روحية مُجرّدة من الماديات الدنيوية، فالحوار الواعي مع مَن يمتلك فكرًا عميقًا يفتح مدارك الإنسان ويساعده على سبر أغواره العميقة واكتشاف ذاته، وإطلاق قوته الداخلية ومحاربة مواطن الضعف لديه، مما يؤدّي إلى تقبّل الذات والتقرُّب منها والتصالح مع الحياة ورؤيتها بمنظورٍ تأمليٍّ عميق.

الحوار الواعي هو الذي يغوص في البؤرة الغامضة للوعي ويبدأ في إنارة غموضها شيئًا فشيئًا، بالحوار تُقحَم أيادي الفكر في أعماق التساؤلات اللا منتهية، فيُشعِرك بالدفء ويدفعك لاستكشاف المزيد دون شَبَع، فالعلاقة هنا طردية؛ فكلما كان الحوار واعياً فُتِحت معه شهية الوعي لتذوّق أصناف جديدة من الأفكار المختلفة، يحرّر الإنسان من الانعزال والجمود الذي يحيط بعقله، فيبدأ بتحريك تلك الآلة المُعجزة (العقل) وضخّها بالوقود الفكري الذي يتفاعل من خلال الاتفاق والاختلاف.. الحوار الواعي هو المبني على تآلف روحي وتقبّل الآخر والبُعد عن الجدال العقيم، وتظل خلاله العلاقة متوازنةً رغم التصادم الفكري وافتراق الطُرُق أحيانًا، الحوار هو بداية الوعي الحقيقي للإنسان حتى وإن كان حوارًا بسيطًا مع الذات لينطلق بعدها نحو آفاق الحياة الواسعة.

نحن بحاجة ماسّة إلى الحوار الواعي في حياتنا لأننا نعيش الاختلاف في كافة الجوانب الدينية، والثقافية والاجتماعية وغيرها.

ومن أهمِّ مقوّمات الحوار هو احترام الآخر مهما كانت درجة اختلافنا معه فكريًا دون الدخول في جدالٍ سقيم وإطلاق الأحكام المُسبقة المُستندة على بقايا الموروثات التقليدية البالية، فالاختلاف الفكري ظاهرة صحيّة ينتج عنها تمازج وتلاحم فكري ومعرفي وتعطي قيمة للأفكار، وقد تكون بدايةً لميلاد أفكارٍ جديدة، وإنارة جوانب الوعي المظلمة، وفتح النوافذ المغلقة وكسر مزاليج الأبواب الموصدة بشدة.

أمَّا الحوار العقيم مع الجهلة والفارغين فيقحم الإنسان في وحل الجدال ومتاهات الإقناع والولوج في فقدان السيطرة على الأعصاب، وأحيانًا إشعال الغضب لديه بلا سبب مُقنع، كما وصف ذلك المؤلف المسرحي الشهير جورج برناردشو: «المجادلة مع الناس الأغبياء تشبه قتل بعوضة وقفت على خدّك، قد تقتلها أو لا تقتلها، لكن في كلتا الحالتين سينتهي الأمر بك أن تصفع نفسك» فإنَّ الدخول في جدال عقيم وحوار سطحي مع شخص يُتقِنه كالدوران داخل حجرةٍ مُغلقةٍ لا نوافذ لها ولا أبواب، فالجدال دون وعي هو إهدار للوقت واستنزاف للطاقة ورفع للضغط وهبوط بالصحة. فالإنسان مهما حاول أن يدّعي المثالية والقدرة على مجاراة الآخر إلا أنّ لديه طاقةً محدودةً مع البشر، لديه ثغراتٌ خفية وجوانبُ هشَّة في تكوينه يجب عليه إدراكها والابتعاد قدر المستطاع عن كلِّ جدالٍ مبتورِ الأطراف الفكرية، وعليه أن يسعى للبحث عمَّن ينتشل روحه من سطحية الأرض ويقذفه نحو اتِّساع الكون المُمتلئ بالفكر الواعي السامي.

الحقيقة الأساسية للوجود البشري كما ذكر الفيلسوف مارتن بوبر هي»الإنسان مع الإنسان» فهي مغامرةٌ غير معروفة النتائج، عملية إبداع يفاجئ الإنسان فيها نفسه، لذلك يجد نفسه مرغمًا على التفاعل داخل بيئته، والتجاذب مع أقرانه والتحاور مع محيطه، فيأتي هنا دوره البطولي في الانتقاء الحذِر للارتقاء بفكره ووعيه عن القاع المُزدحم بالأفكار السخيفة التي تطفو على سطحه بغزارة.

لقد قامت كل الرسائل السماوية على الحوار، بل إنَّ الحوار مُمتد إلى ما بعد الحياة في العوالم الأخرى الخفية، ولكي يصل الإنسان إلى الحقيقة ينبغي له أولًا أن يتخلّص نهائيًا من كل الترسّبات الفكرية التي تشرّبها منذ الطفولة، ويُعيد بناء أفكاره وترتيبها من البداية، ويبدأ من نقطة الصفر، والأهم عدم فقدان الشهيّة نحو اكتشاف الحياة والتساؤلات التي تحتضنها.

فالإنسان هو من يصنع وعيه ويُشغّل عقله ويُحدّد مدخلاته ويُنقّي مخرجاته، ومن ثم يقوم بممارستها في محيطه بناءً على اكتمال نضجه العقلي والفكري، فكل إنسان هو بحاجة إلى برمجة دورية للعقل وإعادة تحديثه وتنقيته من بقايا أفكارٍ جامدة مُتبقية فيه، وإخضاعه لعمليات تصفية فورية وفسح المكان لدخول أفكار جديدة، وإحدى طُرقها الأساسية هي البحث عن الحوار الواعي ومخالطة أصحاب العقول النيرة والفكر العميق. امنح عقلك ما يستحق من التقدير ليمنحك ما تستحق من الوعي.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store