Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. صالح عبدالعزيز الكريّم

ذكريات الرواق والدوارق

A A
كل شبر في طيبة الطيبة تفوح منه عطر النبوة، وترتسم في جنباته أحداث من سير الصحابة، وتتعطر أجواؤه بنسمات روحانية، هناك حيث مسجد وقبر سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وبيته وروضته وسيرته العطرة، تشد الرحال إلى مسجده ويقصده كل من ينشد الراحة النفسية والسكينة القلبية، روحانيته في رمضان تختلف عنها في أي مكان آخر خاصة لحظات الفطور في مسجده عليه السلام فإن لها طابعاً لا يوجد إلا فيه، لشعور القرب منه عليه السلام ومن روضته وبيته وقبته الخضراء حيث إن ذلك كله يبعث على البهجة والراحة النفسية والسكون القلبي.

لقد عشنا رمضانات زمن الطيبين نفطر في المسجد النبوي في الرواق ما بين الحصوة الأولى والثانية وكانت سقيا الماء يومها من الدوارق المصنوعة من الفخار، نجلس في الرواق فترة ما قبل الفطور، ننتظر لحظة الإفطار مع بعض الاصدقاء منهم من توفاه الله ومنهم من لا تزال الذكريات تنبض في قلبه مثل الأستاذ عدنان مرسي -شفاه الله- والأستاذ اسامة خليفة -حفظه الله-، بعضهم يشاركنا الإفطار وبعضهم قبيل وقت الإفطار بقليل يذهب إلى سفرته.

كان وقت ما قبل الإفطار يزخر بحلقات من العلم، من أبرزها حلقات الشيخ محمد الأمين الشنقيطي والشيخ محمد المختار الشنقيطي والشيخ عمر فلاتة والشيخ حماد الإنصاري والشيخ الجزائري والشيخ عطية محمد سالم وغيرهم ويستغرق حديثهم فترة العصرية إلى قبيل المغرب فكنا نستعذب حديثهم الذي كان جله مما له علاقة بالصوم وشهر رمضان والأمور التي حدثت في رمضان وأحكام الصوم.

وكان على يمين الحصوة الأولى الشيخ محمد الأمين الشنقيطي حتى توفاه الله فسار على نسقه وطريقته الشيخ محمد عطية سالم وكان مكانه في الرواق الذي بين الحصوتين، بينما الشيخ عمر فلاتة والشيخ حماد الأنصاري بجوار الروضة الشريفة، وبعد العصر من كل يوم ترى في المسجد النبوي من يقوم على إحضار الماء في دوارق صغيرة ويضعها في أحواض بجوار الصائمين، ويكاد دورق واحد يسد ظمأ شخص واحد وكانت تعبأ الدوارق من أماكن مخصصة في البيوت القديمة في حارة الأغوات وبعض من كان يقوم بإعدادها من أبناء المدينة المنورة محتسباً وبعضهم يأخذ أجرة عليها، نعود إلى الرواق الذي كنا نجلس فيه نراقب لحظة الإفطار بالتسبيح وذكر الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمامنا القبة الخضراء ونترقب اللمبة الحمراء الخاصة بالإفطار التي في أعلى المنارة وتتزامن مع إطلاق الأذان وهي إشارة لإطلاق صوت المدفع الذي كان مكانه في أعلى جبل سلع حيث يراها الجندي من بعيد ثم يضرب المدفع، وكانت سفرة الإفطار عبارة عن تمر وشريك ودقة ولبن شرب أحضره معي من عمل يد الوالدة رحمها الله وكان لبنًا رائبًا لا مثيل له، إذا استطعمه من كان معنا على السفرة يسأل عن مصدره وأين يمكن أن يجده، فالحياة الرمضانية بين الرواق والدوارق في زمن الطيبين لحظاتها روحانية ودعوات ربانية وتزينها صلاة المغرب بصوت ندي جهوري من حنجرة الشيخ الذي يطرب السامعين بتلاوته وصلاته الشيخ عبدالعزيز بن صالح رحمه الله، وفي لحظات العصرية ونحن في الرواق يمر علينا بعض من نعرف أمثال د. عاصم حمدان رحمه الله، لم يكن يومها الحرم مزدحمًا فكان التنقل بين مجالس العلماء سهلاً فيوم بين يدي عالم الأمة صاحب أضواء البيان العلامة محمد الأمين الشنقيطي صاحب الاستشهادات اللغوية والتفسير الروائي، ويوم عند الشيخ حماد الأنصاري علامة الحديث في المدينة المنورة وقد وهب نفسه لخدمة السنة النبوية، وكان الشيخ المختار علامة في التفسير والشيخ عمر فلاتة يدرس السيرة النبوية بينما الشيخ محمد سالم عطية صاحب أسلوب ممتع ويربط الأمور الشرعية بالتفسير وبالعلوم الحديثة خاصة الأحكام الفقهية وتفرد في سنواته الأخيرة باستقطاب عدد كبير من الحضور وما من موضوع إلا ويشبعه بحثًا وتدقيقًا وكان درسه بعد عصر كل يوم في الرواق بين الحصوتين حيث المكان الذي نفطر فيه وما أن يفرغ من حديثه إلا وقد امتدت السفر وتوجهنا إلى الله بالدعاء ومشهد القبة الخضراء والروضة الشريفة وأكف الضراعة يتمثل أمامنا إلى أن يرفع أحد المؤذنين الأذان مؤذنًا بالإفطار وتناول التمرات مقرونًا بالدعاء وطلب تحقيق الرجاء من رب العرش والسماء.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store