Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

التعجُّل في الحج.. تصحيح المفهوم

A A
ترسَّخ في ذهنيات بعضنا عن الآية رقم (٢٠٣) في سورة البقرة التي يقول الله تعالى فيها: «واذكرُوا اللهَ في أيامٍ معدوداتٍ فمَن تعجَّلَ في يومينِ فلا إثمَ عليهِ ومَن تأخرَ فلا إثمَ عليه لِمَن اتَّقى..» أن فيها ترجيحًا وتفضيلًا للتأخُّر في الحج على حساب التعجُّل (في يومين)، ويستدلون على ذلك بأن قوله تعالى: «لِمَنِ اتَّقى»، بأن التقوى هنا تختص بمن تأخَّر في الحج ولم يتعجَّل، وعلى هذا كان أمر التعجُّل -عند البعض- يُعد من الأمور غير المرغوبة، في المقابل كان التأخر في الحج هو الراجح لديهم؛ كونهم فهموا أن التأخُّر في الحج لا يقوم به إلا (المتقون)، بمعنى أنهم فهموا أن الإثم منتفٍ عن الفئتين (المتعجلين والمتأخرين)، لكن فئة المتأخرين شُهِد لهم بالتقوى، وهو ما يعني -وفق هذا المفهوم الخاطئ- أن المتعجلين ليسوا أهل تقوى. والحقيقة أن هذا يُعد من الفهم السقيم للآية ومقصودها؛ فالآية دلالاتها واضحة ومقصودها بيِّن؛ فهي تنفي الإثم عن الفئتين (فئة المتعجلين وفئة المتأخرين)، لكنها تشترط شرطًا لازمًا في نفي هذا الإثم عن الفئتين كليتهما ألا وهو (التقوى)، بغض النظر عن مسألة التعجل والتأخر، وعليه فمفهوم الآية هو: من تعجل وهو متَّقٍ فقد انتفى عنه الإثم، ومن تأخر وهو متَّقٍ فقد انتفى عنه الإثم، وبهذا يُفهم بأنه ليست هناك أفضلية للتأخر في الحج كما فهم البعض من الآية، وأن الفارق بين المتعجلِين والمتأخرِين هو مسألة (التقوى). ولو أن مقصود الآية كان كما فهمه هؤلاء لكان مقصود آية: «وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا..» هو أن من كان يدعو هنا هو إسماعيل عليه السلام، في حين أن الدعاء كان صادرًا من إبراهيم عليه السلام وابنه إسماعيل، وكان مقصود آية: «إنْ تُبدوا الصدقات فنِعمَّا هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم» هو أن تكفير السيئات مقصور على مَن يُخفي صدقته، في حين تكفير السيئات يشمل الفئتين، وكان مقصود آية: «إن تُخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمْه الله» هو أن الله تعالى يعلم فقط ما نُبديه، في حين يشمل علم الله الحالتين، وكان مقصود آية: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يُجزى إلا مثلها وهم لا يُظلمون» هو أن عدم الظلم يختص بمن جاء بالسيئة، في حين يشمل عدم الظلم الحالتين، وغيرها من الآيات التي يشمل الحكم النهائي فيها الفئات والحالات السابقة للحُكم. هنا يأتي محمد بن أبي بكر الرازي في كتابه المعنون بـ(مسائل الرازي وأجوبتها من غرائب التنزيل)، فيقول حول هذه الآية «فإن قيل: كيف قال الله تعالى (فَمَن تَعجَّل في يومينِ فلا إِثمَ عليهِ ومَن تأخَّرَ فلا إِثمَ عليهِ) ومعلوم أن المتعجل التارك بعض الرمي إذا لم يكن عليه إثم لا يكون على المتأخر الآتي بالرمي كاملًا؟ قلنا: كان أهل الجاهلية فريقين منهم من جعل المتعجل آثمًا، ومنهم من جعل المتأخر آثمًا، فأخبر الله تعالى بنفي الإثم عنهما جميعا، أو معناه لا إثم على المتأخر في تركه الأخذ بالرخصة، مع أن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، أو أن معناه أن انتفاء الإثم عنهما موقوف على التقوى؛ لا على مجرد الرخصة أو العزيمة في الرمي»، ثم يفسر الرازي مفهوم التقوى بقوله «ثم قيل: المراد به تقوى المعاصي في الحج وقيل: تقوى المعاصي بعد الحج في بقية العمر بالوفاء بما عاهد اللهَ تعالى عليه بعرفة وغيرها من مواقف الحج من التوبة والإنابة».
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store