Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
طارق علي فدعق

ارقـــــــــــــص

A A
لا علاقة لعنوان المقال بالرقص، فهو اسم عملية أمريكية غريبة وسرية للغاية جرت أحداثها خلال عام 1958.. «ارقص» يشير إلى شخصية إغريقية تاريخية وهمية لها مائة عين، وهي مقرونة بأقصى درجات الحماية.. بدأت حكايتنا بإطلاق الاتحاد السوفيتي القمر الصناعي المسمى الرفيق الصغير «سبوتنك 1»، الذي كان بحجم حبحبة ضخمة في 4 أكتوبر 1957 بطريقة فيها استعراض للعضلات.. سار في حركة مدارية حول الكرة الأرضية على ارتفاع وصل إلى تسعمائة كيلومتر فوق سطح البحر، وبسرعة تفوق 28 ألف كيلومتر في الساعة.. وليفرك الملح في عين المنافسين كان يعلن وجوده بإطلاق إشارات مسموعة بوضوح على أجهزة الراديو من أي مكان على كوكب الأرض.. وبعده بفترة قصيرة أطلق السوفيت «سبوتنك 2»، وكان أكبر بكثير، إذ كان بحجم سيارة «هونداي» صغيرة، وحمل كلبة روسية اسمها «لايكا»، تسببا في حالة ما يشبه الهلع للسلطات الأمريكية، بسبب أن تلك المركبات كانت تعكس قدرات حمل قنابل نووية بسرعات هائلة صعبة الردع.. ومن هنا بدأ البحث عن آليات دفاعية ضد تلك الصواريخ الجبارة، وتم تصميم مشروع «ارقص» الجنوني.

ولدت الفكرة في مخيلة مهندس تركيب مصاعد يوناني الأصل اسمه «كريستوفولس».. كان من العباقرة في عالم الفيزياء التطبيقية، وجاء بفكرة جهنمية مفادها: «حيث إن الكرة الأرضية بأكملها هي أشبه بمغناطيس كبير، وهي محاطة بخطوط قوى في الطبقات الجوية العليا وصولاً إلى الفضاء الخارجي المباشر، وتشبه «كَفَر» السيارة. وجاءت الفكرة أن التفجيرات النووية المتعمدة في طبقات الفضاء المنخفضة ستُحدث تغيُّرات في البيئة المغناطيسية حول الكوكب، لتعطل أجهزة توجيه أي صواريخ هجومية ضد الولايات المتحدة».. فكرة من خارج الصندوق.. بل وجميع الصناديق على كوكب الأرض.. الشاهد أن جهات الدفاع الأمريكية المختلفة اقتنعت بالفكرة، وقرروا أن يجربوا الموضوع في أكبر تجربة في التاريخ.. تم تكريس أسطول بحري يتضمن حاملة طائرات.. وثماني قطع بحرية حربية ضخمة، وحوالى خمسة آلاف عسكري وعالم. كلهم كرسوا في قوة خاصة لإطلاق ثلاثة صواريخ من القوة البحرية، وتفجير ثلاث قنابل نووية على ارتفاعات مختلفة لقياس أثرها على الإلكترونات والمجال المغناطيسي الجوي.. وتم اختيار منطقة في «آخر الدنيا» في أقصى جنوب المحيط الأطلسي بين إفريقيا والبرازيل اسمها «المنطقة البرازيلية الشاذة»، نسبةً إلى شذوذها الإشعاعي.. وفي الفترة 27 أغسطس إلى 9 سبتمبر 1958 تم إطلاق ثلاثة صواريخ، وتفجير ثلاث قنابل نووية في الفضاء الخارجي، وقياس الآثار، فأثبتت توقعات الفكرة الرهيبة.. حيث تعطلت الأجهزة الإلكترونية بما فيها الراديوهات والرادارات في مناطق شاسعة، ولكنها لم تكن بالفعالية المطلوبة، فقد تبددت آثارها سريعاً.. وفرحوا بالتجربة فتبعتها تجارب أخرى، وأصبح تفجير القنابل النووية في الفضاء موضة، شارك فيها الاتحاد السوفيتي في تصرفات يمكن وصفها «بالصياعة النووية» في الفضاء.. وتسببت تلك التفجيرات في حرق وتعطيل العديد من الأقمار الصناعية السلمية والعسكرية.. وأصبح الفضاء أشبه بملعب تملكه القوات العظمى للتفجير هنا وهناك كما يرون؛ بدون الأخذ في الحسبان تأثيره على البشرية.. مما يُذكِّرني بالجار الذي يريد أن يحتفي بمناسبة، فيفجر قنابل، ويطلق النار من أسلحته في الحي.

* أمنيـــــة:

التمكن من تقنيات استكشاف الفضاء لا يعطي الحق التلقائي في «غزو» ولا «عسكرة» الفضاء.. وقد حاولت دول العالم أن ترسم الحدود بمنع تفجير القنابل النووية في الفضاء الخارجي بتاريخ 5 أغسطس 1963؛ من خلال اتفاقية دولية وقعت عليها مائة وست وعشرون دولة.. ولكن في 22 سبتمبر 1979 فوجئ العالم بتفجير نووي في الفضاء من إسرائيل وجنوب إفريقيا في جنوب المحيط الهندي؛ فيما يُعرف بواقعة «فيلا»، نسبة إلى القمر الصناعي الذي رصد الحدث.. أتمنى أن توثق الاتفاقيات العالمية - التي سترى النور قريباً- المسؤوليات الإنسانية في استكشاف الفضاء للبشرية اليوم وللأجيال القادمة بما يرضي الله، وهو من وراء القصد.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store