Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
طارق علي فدعق

شـــــــــــم

A A
خلال الأربعة والعشرين ساعة الماضية، تنفست بلطف الله حوالى عشرين ألف مرة.. وكمية الهواء في كل نفس كانت تعادل محتوى حوالى علبتي «فيمتو».. وفي كل نفس دخلت ملايين الجزيئات الطيارة عبر أنفي بشكل أو بآخر، وبعضها سجلت في حاسة الشم. وقبل الخوض في الموضوع، أود أن أوضح مجموعة معتقدات غير صحيحة: أولها أننا نشم بأنوفنا، والواقع هو أننا نشم بعقولنا، فالخشم هو المسؤول عن التجهيز والتحفيز، ونحن لا نستشعر الجزيئات المعلقة في الهواء بطريقة مباشرة، فلابد أن يتم تجهيزها من خلال «بلبلة» تلك الجزيئات بالخلايا المخاطية على الأسطح الداخلية لأنوفنا. ومن خلال «النقع» يتم التجهيز بلطف الله، لتنقل الأحاسيس بمصداقية إلى المركز المعني بداخل عقولنا.. ومن المعتقدات غير الصحيحة أيضاً؛ أن حاسة الشم غير قوية لدى البشر، نسبةً إلى العديد من الكائنات الأخرى، وكانت تقديرات عدد الروائح التي نستطيع شمّها هي حوالى ثلاثين ألف رائحة.. والواقع أن العدد الصحيح يفوق المليار، حسب الأبحاث التي صدرت في مجال حاسة الشم خلال العشر سنوات الماضية. وهناك أيضاً بعض الروابط غير المتوقعة، وعلى رأسها أبحاث الدكتورين «بوك وأكسل»، الحاصلين على جائزة نوبل في الطب وعلم وظائف الأعضاء عام 2004، اللذين اكتشفا خلفيات وراثية غير متوقعة في تلك النعمة العظيمة.. يعني كل منَّا يُولد وبداخله برمجة لمستقبلات الروائح بأمر الله.. ومن غرائب حاسة الشم التي يصعب تصديقها، أن بعض خلايا الشم موجودة في أماكن غير متوقعة بداخلنا، ومنها (الكلى).. يعني تخيَّل (كلى) تمارس شم المواد في السوائل بداخل أجسامنا، وسبحان الخالق العظيم.

ومن عجائب الشم أيضاً، ارتباطه بالذاكرة بطرق تتفوق على الحواس الأخرى في حياتنا. والعجيب هنا أن حاسة البصر التي تهيمن على جميع الحواس الأخرى بداخلنا لا تهيمن على موضوع الارتباط بالذاكرة.. كلنا نتذكر روائح آبائنا وأمهاتنا، ونتذكر ونسترجع بيسر روائح الطبخ في منازلنا. وهناك المزيد من الغرائب في عالم الشم، فبالرغم من أهمية هذه النعمة، ومن التطورات البحثية في عالمها، لا توجد وحدات لقياسها.. حاستا البصر والسمع يقاسان بطول الموجات والتردد، واللمس يقاس بوحدات الضغط مهما كانت بسيطة، والتذوق له قياسات الحلو والمالح والمر والحامض. وحتى في الإطار اللغوي العالمي، نجد أن وصف الروائح متواضعة.. لذيذ.. حلو.. غني.. معتق.. معفن... وهكذا.

وهناك بعض الأبعاد غير المتوقعة للشم، لاحظ مثلاً الروائح المميزة للسيارات الجديدة، وهي مقصودة، ولاحظ أيضاً الروائح المميزة بداخل الطائرات.. وروائح الكتب، وبالذات القديمة منها، والأهم من ذلك، الروائح الجميلة للمساجد التي تترك بصمات مميزة. وفي عالم العمران، نجد أن بعض المدن تتميز بروائحها الجميلة، وأخص بالذكر القدس الشريف، التي تتميز أزقتها المؤدية إلى ساحة الأقصى بمحلات العطارة، والمخبوزات، والحلوى، لتضيف النكهات الرائعة لحضارتها، وهذه من سمات المدن المقدسة، فنجدها في مكة المكرمة والمدينة المنورة. وقد اطلعت على أحد الأبحاث الإبداعية التي أنجزتها الأستاذة «مهى قمر الدين» خلال هذا العام بعنوان: «روائح المدن وأهميتها الثقافية: المملكة العربية السعودية نموذجاً»، وهو من الأبحاث التي تستحق القراءة والتأمُّل. ومن المعلومات المهمة أننا لا نستشعر عالمنا العمراني بحاسة البصر فحسب، ولذا فهناك أهمية خاصة لإدراج أهمية جميع الحواس.

* أمنيـــــــة:

حاسة الشم من النعم الجميلة التي أتمنى أن نعطيها حقها من الاهتمام على جميع المستويات.. بدءاً من المستوى الشخصي، والأسري، إلى المستويات العمرانية.. ومما لاشك فيه أننا سنرى ونشم تطورات جديدة مذهلة في هذا المجال قريباً بتوفيق الله، وهو من وراء القصد.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store