بالنظر إلى الحراك الكبير غير المسبوق الذي تشهده المملكة اليوم لتوظيف كنوز قوتها الناعمة في شتى المجالات، والتي تشمل السياحة والرياضة والثقافة والفنون وغيرها، فإن الخطوة الراهنة التي يجب أن تواكب ذلك الحراك، هي «قياس النتائج» المتحققة لكافة تلك الأنشطة، باستخدام وسائل قياس مناسبة ومدروسة، وبحيث يشمل ذلك المدى القصير والمتوسط والبعيد، ويتم توثيقه وحفظه في قواعد بيانات محكمة التصميم على غرار البيانات التي تقيس وتقارن التغير الحاصل في أرقام التضخم، وأرقام الناتج القومي الإجمالي في مجال الاقتصاد.
وحيث إن القوة الناعمة تعني ممارسة التأثير بالجاذبية والإقناع، بهدف تعزيز صورة البلد ودعم تحقيق أهداف سياسته الخارجية، فإن من المهم التنبيه هنا إلى أن عملية تقييم وقياس ذلك التأثير ليس أمراً سهلاً، نظراً لطبيعة مصادر القوة الناعمة غير الملموسة (مثل الثقافة والدين والقيم).. وفي واقع الأمر فإن عدداً محدوداً من مجالات السياسة الخارجية عموماً، يحتوي على علاقات قابلة للقياس والتحقق بين الأنشطة والنتائج، مما يجعل أي تطبيق صارم لمنطق «السبب والنتيجة» أمراً ليس سهلاً.
هذه الصعوبة في قياس فاعلية وتأثير أنشطة القوة الناعمة ينبغي ألا تكون بأي حال سبباً في عدم إجراء التقييم، لأن ذلك يعني ببساطة تركنا لقوتنا الناعمة تسير معصوبة العينين بكل ما يحمله ذلك من نتائج يمكن أن تكون سلبية، ولا تتسق مع الأهداف المرجوة.
وبهذا الصدد، فإن أحد أكثر الأخطاء شيوعاً عند قياس فاعلية القوة الناعمة، هو الميل لقياس «النشاط» بدلاً من قياس «النتيجة والتأثير»، فعلى سبيل المثال عندما نقوم بقياس عدد الأفلام السعودية التي تم إنتاجها؛ فإن ذلك يعتبر قياساً للنشاط وليس للنتيجة. في حين أنه يمكن القياس بعدة طرق: فيمكن مثلاً حساب عدد التذاكر المباعة في دولة محددة (تقييم قصير الأجل).. وتقييم لمدى تأثير الفيلم في التحفيز للسياحة في المملكة (متوسط الأجل).. وتقييم لمدى تحفيزه للاستثمار في المملكة (طويل الأجل).هناك وسائل أخرى مختلفة -كمية ونوعية- لقياس تأثير أنشطة القوة الناعمة، ومنها استطلاعات الرأي والوسائل الرقمية عبر شبكات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى وجود عدد من المؤشرات المتخصصة في تقييم وتصنيف الدول وفقاً لقوتها الناعمة، ومن تلك المؤشرات Soft Power 30 وبراند فاينانس وغيرهما.. ولكلٍ من هذه الوسائل إيجابياته وسلبياته.
ختاماً، هناك أرقام (نتائج) تشير بوضوح لوجود (أنشطة) دبلوماسية عامة ناجحة، وذلك مثل الأرقام الأخيرة لإيرادات السياحة الوافدة للمملكة، والتي نمت 225% خلال الربع الأول من عام 2023 مقارنة بالربع الأول من عام 2022. وفي المقابل أيضا هناك (أنشطة) حققت (نتائج) سريعة مبهرة، مثل فوز المنتخب السعودي على الأرجنتين في كأس العالم في قطر. هذا الفوز هو في رأيي أفضل نموذج للقوة الناعمة الناجحة التي لم يملك إعلام العالم - محب وغير محب- إلا أن يتحدث بإيجابية عنه، لكونه ببساطة «قوة ناعمة» ملموسة وغير قابلة للتشكيك، تحققت بجهود سعودية، وعلى مرأى مباشر في جميع أنحاء العالم.
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
