Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. عادل خميس الزهراني

«جرما» علوان: فتنة الترجمة ولعنتها

A A
انتهيت مؤخراً من رواية (جرما الترجمان) للدكتور محمد حسن علوان، وليتني لم أفعل.

فهي من تلك الروايات التي تتمنى ألا تصل لنهايتها، لكنك تصل. (هذه الجدلية الجميلة بين عدم قدرتك أن تترك كتاباً، وخوفك من أن تنهيه، ليست جديدة على القراء، وهي واحدة من نعم القراءة الكثيرة).

نعمة القراءة تقابلها نعمة الترجمة التي بدت تفاحة الجنة لجرمانوس، الشخصية الرئيسة في الرواية، ذلك المسيحي الحلبي الذي وجد نفسه يجوب مدن العالم راغماً، لأنه موهوب في تعلّم اللغات. وهي موهبة قفزت به سريعاً، واختصرت له طريق المجد، ليصبح رفيقاً لسلطان عثماني ثري وشهير. هذه الرفقة ستثبت إن كانت الموهبة نعمة أم نقمةً لهذا الشاب الصغير.

نعم، (جرما الترجمان) رواية تاريخية تقليدية، مثل باقي الروايات التي تستثمر الحقبة الزمانية الخصبة (حقبة انعدام الاستقرار في زمن الخلافة العثمانية، والحروب الصليبية، ونهايات الحكم الإسلامي في الأندلس...). لا يصل جرما للأندلس، لكنها تصل إليه.

الرواية ليست جديدة في ثيمتها إذن، ولا في بنيتها، لكنها تجذبك، وتسلبك، وترمي بك في دوامة الجدلية.. جدلية القراءة التي أشرت إليها، وهذا هو السر. ما الذي يجعل رواية تاريخية تستثمر الحقبة ذاتها، وتعتمد بنيتها على الرحلة بين المدن ومفاجآتها (وهي بنية تكاد تتكرر في معظم الروايات التاريخية)، ما الذي يجعل روايةً مثل هذه تصدر في العام 2021 بالفكرة، والنوع، والبنية ذاتها تنجح، وتقدم جديداً، وتجذب قارئها وتحقق أهداف الأدب الجمالية. يبدو لي أن الجواب توفره النظرية النقدية؛ إنه في طريقة الحكي. وإذا كانت حكاية جرما ليست جديدة، فإن الجدة والبراعة في طريقة سرد قصته، وهنا يأتي دور الموهبة الشخصية للكاتب.

إن نجاح مثل هذه الرواية دليل بارز -في رأيي- على موهبة الكاتب الذي يستطيع -بما يوظفه من التقنيات السردية المختلفة- على اصطيادك وسجنك في عالم روايته لأيام. ترى العالم من منظور جرما، وتخشى من مجهول الأيام لأنك مسلوب الإرادة، كما كان جرما أيضاً. هذا ما نسميه في النقد: التبئير، (وأصدقائي -هذه الأيام- يرددون المصطلح ساخرين مني، ويضحكون.. يا ليت قومي يعلمون!).

بدأت قراءة الرواية في مساء خميسي، وطلع صباح الجمعة وأنا أقرأ. لأيام ظلت شغلي الشاغل، آخذها لكل اجتماع، وأحاول الانفراد بها، ومسامرتها بلهفة عاشق مستهام، كانت الرواية أنثاي الأثيرة.. لبضعة أيام على الأقل. الآن بعد شهر من انفصالنا (الذي حصل بنظام الخلع)، لا تزال (جرما الترجمان) تسكنني، وتشغلني، والدليل أني أكتب عنها.

علوان ليس جديداً على الروايات التاريخية، بل إنه حصل على البوكر على رواية مماثلة كما نعلم جميعاً (موت صغير)، والعجيب في رواية جرما أنها أبسط كثيراً من رواية (موت صغير)، لكنها جميلة ومشوقة بالقدر نفسه تقريباً. وهذا دليل على أن الموهبة الأدبية هي الأساس، أقول هذا لكل من اعتقد أن لديه حكاية تصلح أن تكتب على شكل رواية.. توقف، واسأل نفسك: هل أمتلك الموهبة الأدبية لأكتب رواية؟ وإن لم تجد الإجابة، فاعرض عن هذا، وأرحْ خلق الله من شرٍ قد اقترب. القصة الجيدة لا تصنع أديباً، لكن الأديب يصنع من قصة ما -مهما كانت- عملاً جميلاً. ملكة الكتابة الأدبية نعمة خاصة يهبها الله للأدباء والأدبيات.

الله وهب جرما ملكة تعلّم اللغات فكانت جناحه الذي طار به من حلب وحط به في مدن الله. هذه الملكة كانت في الوقت ذاته قيده الذي أحاله لأسير وخادم لا يملك من أمر ذاته شيئاً. أعتقد أن المتخصصين في الترجمة يمكن أن يستفيدوا من الرواية في تقديم دراسة حديثة عن مآلات الترجمة، أفكر في عدد من النتائج التي يمكن أن يخرجوا بها.

منذ انتهيت من الرواية، وأنا مسكون بعدد من الشخصيات العابرة التي مرت عليها. أفكر تحديداً في (بانديكا)، الفتاة التي رعت جرما وأطعمته وحنت عليه صغيراً، وجعلت بابها موارباً أمامه، قبل أن يغادر قبرص. ماذا حل بها؟ لا نعلم، ولن نعلم. لأن الراوي قرر ذلك.. يا لقسوته!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store