Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
محسن علي السهيمي

الطائي والهلالي.. من الفطرة إلى الأسْطرة!

A A
للأساطير حضورها الطاغي في المجتمعات البشرية؛ بوصفها نوعًا من الخوارق التي يظنها الإنسان تعمل على الإجابة عن تساؤلاته، أو تحقق حاجاته النفسية في الظهور والمكانة، وهذه الأساطير تبدأ بسيطة كغيرها، وبمرور الزمن يُضفي عليها الناس كراماتٍ وخوارقَ؛ حتى تغدو كحقائق لا تقبل الشك. في المخيال العربي أمامنا شخصيتان عربيتان حازتا مكانة عليَّة ورسختا في ذاكرتنا الجمعية، وأصبحتا رمزين تاريخيين لا يقبلان التشكيك أو إثارة السؤال حولهما وهما (حاتم الطائي وأبوزيد الهلالي)، هاتان الشخصيتان حفظ التاريخ العربي سيرتهما، فتضخمت حتى غدت أشبه ما تكون بسير الأنبياء والرسل التي لا تقبل التشكيك. حتى لا تذهبوا بعيدًا فلا خلاف على وجود هاتين الشخصيتين، لكن الخلاف هو على المبالغات التي تكاثرت على هاتين الشخصيتين وكبرت حتى أحاطتهما بسور من اليقين.

عن حاتم الطائي وكرمه يبرز لنا الحديث المشهور وفيه «خلُّوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق»، فهذا نص لا يتصل بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل هو كما قيل عنه مكذوب، وأصح ما أُثر عنه قوله لسفَّانة بنت حاتم «إن أباك أراد أمرًا فأدركَه، يعني: الذِّكْر». من جانب آخر إذا بلغ حاتم الطائي من الكرم أنه يذبح وينحر لكل ضيف، ويذبح وينحر لضيوفه كل ما تقع عليه يداه، فما هذه الثروة الحيوانية التي لا تنفد؟ وإن نفدت ذات يوم فهذا من العبث والتبذير الذي يُستهجَن ولا يُشاد به. في تقرير لصحيفة البشاير المصرية على الشبكة؛ قال الباحث في التاريخ والآثار تركي المحيفر: إن تحديد موقع حاتم الطائي في (توارن) شمال حائل «شبه مستحيل، ولا يوجد شيء يدل على أنه استوطن توارن، مبينًا أن حاتم كان أعرابيًّا بدويًّا يرحل وينزل»، مؤكدًا على أن البيت الطيني الموجود في توارن «من المستحيل أن يعود إلى حاتم»، وأن (القبر والموقِد) المنسوبَين لحاتم ما هما إلا (أساطير)، وقس على هذه الأساطيرِ الكثيرَ من القصص التي حيكت عن كرم حاتم الطائي.

في جانب القوة والشجاعة يأتي أبوزيد الهلالي؛ ليشكل أسطورة قامت على المبالغات في وصف قوته وشجاعته، حتى أصبح لأبي زيد معالم طبيعية تحكي قوته في كل ناحية وفي كل بلد؛ فعلى سبيل المثال توجد عندنا في محافظة العُرْضِيَّات صخرتان ضخمتان ترتكزان على صخرتين تحتهما، الأولى تسمى (رَصْعة أبوزيد) والثانية تسمى (نَبْلة أبوزيد)، وعندنا أيضًا صخرة فيها فتحتان وتسمى (عيون أبوزيد)، وهكذا تتعدد رصعاته ونباله وخوارقه في كل بلد، ونتيجةً لذلك أصبحت كل جهة وناحية تدَّعي وصلًا بولادته ونشأته وخوارقه. قس على المبالغة في هاتين الشخصيتين (الطائي والهلالي)، المبالغة في حدَّة بصر (زرقاء اليمامة)، الذي أثبت العلم الحديث اليوم أنه خرافة حينما تبين أن الأرض كروية، وبالتالي مهما كانت قوة نظرها فلن ترى ما غاب من الأرض خلف الأفق، وليس بعيدًا عنها (عنترة بن شداد) الذي يقول عنه الدكتور محمد الجويلي في مقاله بصحيفة العرب اللندنية: «إنَّ شخصية عنترة العبسي لم ينحتها الواقع بقدر ما نسجها المخيال الشعبي، وأضاف إليها الكثير من الروايات تعزِّز أسطورته».

نحن العرب حفيُّون بالأساطير، نستطيب المبالغة في وصفها وتمجيدها مهما خالف وصفها العقل، وما يمكن الختم به هي مقولة بليغة تصف هذه الحال -لا يحضرني اسم قائلها- ومفادها: (كل إنسان تجده أقل بكثير مما قيل فيه إلا محمدًا -صلى الله عليه وسلم- فهو أكبر بكثير مما قيل فيه).

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store