Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. سعود كاتب

هل بدأت جبهة الإعلام الإسرائيلية بالانهيار؟ (2)

A A
ذكرتُ في مقالي السابق بأنَّ الفزع الحقيقي الذي أصاب إسرائيل بعد 7 أكتوبر، لم يكن فقط نتيجة للاختراق العسكري المهين الذي تعرَّضت له، ولكنَّه كان -أيضًا- نتيجة ملاحظتها وإدراكها بأنَّ هناك اختراقًا آخرَ أشد خطورة، وهو الاختراق الحاصل في غير صالحها -بشكلٍ غير مسبوق- على جبهة الإعلام الدولي.

لقد اعتمدت إسرائيل -منذ نشأتها- على إستراتيجيَّات محدَّدة، تنظر إليها دومًا باعتبارها ثوابتَ لا يجوز المساسُ بها؛ نظرًا لارتباطها بمفهوم البقاء والأمن القومي الإسرائيلي، وأهم تلك الإستراتيجيَّات: إستراتيجيَّة الرَّدع والتفوُّق العسكري، وإستراتيجيَّة الحسم في أرض المعركة، وإستراتيجيَّة الضربات الاستباقيَّة الوقائيَّة، بالإضافة إلى إستراتيجيَّة أخرى مختلفة ذات أهميَّة قصوى، وهي إستراتيجيَّة التفوُّق والتَّأثير الإعلامي الدولي.

وتعمل جميع هذه الإستراتيجيَّات بقدرٍ كبير من التناغم والتَّكامل، بحيث يسعى كلٌّ منها إلى تغطية أيِّ إخفاق أو فشل للآخر، والواقع الذي قد يغفل عنه البعض، هو أنَّ هناك الكثير من الحالات التي أخفقت فيها إسرائيل عسكريًّا واستخباراتيًّا، فإخفاق 7 أكتوبر -رغم جسامته- ليس الأوَّل بأيِّ حالٍ، وتسعى حاليًّا إسرائيلُ باستماتة لتغطيته؛ بمحاولة استدعاء «إستراتيجيَّة الحسم» في غزَّة، وهي -أيضًا- بحدِّ ذاتها مغامرة، وخطأ آخر تشير الدلائل إلى أنَّه سيُكلِّفها الكثير.

لقد عوَّدتنا إسرائيل في الواقع على قدرتها على النهوض بعد حالات الفشل والإخفاق، ليس لأنَّها دولة خارقة ومتميِّزة ذاتيًّا، ولكنْ لأنَّها تحظى دومًا بدعم لا محدود من الولايات المتحدة، والدول الغربيَّة الأخرى، ورأينا -مؤخَّرًا- كيف سارعت تلك الدول بإرسال حاملات طائراتها للمنطقة؛ دعمًا لإسرائيل، وتزويدها بمختلف شحنات الأسلحة الفتَّاكة، والمنح الملياريَّة، والدعم السياسي.

الإخفاق الجديد الذي لم يسبق لإسرائيل تجرُّع مرارته من قبل، هو «الإخفاق الإعلامي»، الذي أتاحته التطوُّرات التكنولوجيَّة الرقميَّة، بمنحها الأطراف «الأقل حظًّا» قدرة متساوية لإيصال صوتها للرأي العام العالمي بيسرٍ وسهولة، وبشكل يحدُّ من تأثيرات الانحياز والإقصاء الذي مارسته وسائل الإعلام التقليدي لعقود عديدة مضت. ورغم أنَّ هذا الجانب يحظى أيضًا بدعم غربي لا محدود لإسرائيل، مثله مثل الجوانب العسكريَّة والاستخباراتيَّة، إلَّا أنَّ انفتاح الفضاء المعلوماتي أصبح اليوم أكبر وأكثر تعقيدًا من قدرة أيِّ طرف على احتكاره لصالحه، أو قلب موازينه.

هذا الواقع الرقمي الجديد، يضع الفلسطينيين أمام مرحلة جديدة بواقع جديد تماماً، فالساحة أصبحت تقريباً متاحة لهم بذات القدر المتاح لعدوهم، وعليهم أنْ يختاروا: إما توظيف هذا الواقع لخدمة قضيتهم العادلة، وتعريف العالم بها، أو الاكتفاء بنقل صراعاتهم وانقساماتهم من الأرض للفضاء المعلوماتي.

على الفلسطينيين -أيضًا- أنْ يدركوا بأنَّ إسرائيل لن تقف موقف المتفرِّج، فهي قد سبقت الجميع ليس فقط بتوظيف الإعلام، قديمه وجديده؛ لخدمة أهدافها، ولكنَّها كما سبقت الإشارة، أقامت منظومة متكاملة ومتناغمة من الإستراتيجيَّات، من ضمنها أنشطة الدعم advocacy activities، وأنشطة الدبلوماسيَّة العامَّة والقوة الناعمة. وهذه الأنشطة يفتقدها كثيرًا الجانب الفلسطيني رغم أهميَّتها، ورغم استفادتها من الانفتاح الإعلامي الجديد. وقد أشرتُ في مقالي السابق لهذه الأنشطة، ولكنَّ أهميَّتها ربما تستدعي أنْ أُخصِّصَ لها مقالًا مقبلًا بحول الله.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store