Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. صالح عبدالعزيز الكريّم

«سقيا» ورحمة لا «فوبيا» وزحمة!!

A A
كما أنَّ المدينة المنوَّرة سيَّدة الدُّنيا، ولا يشبهها في الكون شيءٌ، كذا نزول المطر في أنحائها له طعمه وذائقته وعذوبته، فعندما كان ينزل فيها المطرُ ونحن صغارٌ في الزَّمن القريب، كانت تبتهج للقائه النُّفوسُ، وتفرح لنسماته القلوبُ، ويُنبت على إثر مائه الزَّرعُ، وينمو الضرعُ، كنَّا نستجدي نزول المطر بعبارات الطفولة «يا مطرة صُبِّي صُبِّي وعلينا يالله حُطِّي»، والكلُّ يلعب ويلهو مستمتعًا به وبمجيئه ونزوله، بل نحبُّه؛ لأنَّه بركةُ السَّماء نقاءً وصفاءً، وهو الموصوف في القرآن الكريم بأنَّه رحمةٌ، وأنَّ الرِّياحَ تبشِّرُ به وبقدومه.

وأيَّام المطر في تلك الإيَّام الجميلة، عندما تكتنفها أجواء الغيوم، وتقرقعُ في آفاق السَّماء الرعودُ، وتلمعُ في جَنَبات السُّحبِ البروقُ، تُقابَل من الصغار -أولادًا وبناتٍ- باللَّهو واللَّعب تحت زخات مائه ونظرات سمائه، ولا ينسى أهلُ الحيِّ الواحد عندما يستيقظُون على صباح تلك الليلة الممطرة إشراق ذلك الصباح المغسول بالمطر، وقد امتلأت أرجاء الحيِّ ونواحيه بتجمُّعات من المياه؛ ليتعاون بعدها الأهالي لتصريف المياه، ويستيقظ النَّاسُ موحِّدين اللهَ ومردِّدين له الذِّكرَ «مطرنَا بفضلِ اللهِ ورحمتِهِ».

كانت نفوس الجيران تشترى بماء الذهب لنقاوتها وحبها لبعضها، غسلها ماءُ السحاب من أدران الحقدِ والحسدِ والبغضِ والتكبرِ، لا تكادُ تعرف غنيهم من فقيرِهم؛ لما كانوا عليه من درجة اللاعنصرية، فالمطرُ رحمةٌ وبهجةٌ وبشرى وسقيا، وليس كاليوم فوبيا يزرعُ الإعلانُ عنه عبر الأرصاد مزيداً من الفوبيا في النفوس فغدا الناسُ في معظمهم يخافونَ منه، قبل أنْ تنزلَ منه قطراتٌ يتهرَّبُ البعضُ من لقائه، ويصفه الآباءُ للصغارِ بأنَّه خطرٌ ويجبُ الحذر من مائه وسَيله وتدفُّقه وزحمة شوارعه، وأنَّ على الجميع العودةَ السريعة للمنزل، ولا أحدَ يخرج أو يبتعد عن البيت، بل قد ينصرفُون إلى القنوات والجوالات للمتابعة والمشاهدات، دون إحساس به، ويُقبلُ السَّحابُ، وتقتربُ الغيومُ، وتتهيأُ المُزنُ، وينزلُ المطرُ، وينسابُ الماءُ كقطرات وزخَّات، وترتوي منه الأرضُ وقد تفيضُ لتملأ الشوارعَ، ولا يحسُّ به لا الصغارُ ولا الكبارُ لما حلَّ في النفوس من مقاطعة له، ومجافاة لنزوله؛ خوفًا منه، على الرغم أنَّ مِن السُّنَّة التعرُّض له ولنزوله من السَّماء، فتنتعشُ لملاقاته القلوبُ، وتبتسمُ لمغازلته النفوسُ، وتعودُ للأرواح على إثره نسماتٌ من الرَّحمة والرَّاحة النفسيَّة والقلبيَّة، وهناك آدابٌ خاصَّة وردت عن النبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لطلب نزول الغيث عند جفاف الأرض، وانعدام الزَّرع، وموت الضرع وأشهرها: «اللهُمَّ اسقِنَا وأغِثْنَا»، والدُّعاء عندما يفيضُ ويزيدُ ولا تكونُ هناك مجارٍ لتصريف مياهه، ويُبتلى النَّاس به غرقًا أو هدمًا، وعندها يصحُّ القولُ: «اللهُمَّ حَوالَينَا ولَا عَلَينَا، اللهُمَّ على الآكامِ ومنابتِ الأشجارِ». وأوقاتُ نزولِ المطر فرصةٌ لإجابة الدُّعاء، كما ورد في الحديث الشريف. فوقتُ نزوله وقتٌ مباركٌ للقربِ من اللهِ وسؤاله حتَّى أنَّ رعدَهُ المصاحب لقرب نزوله يسبِّح لربِّهِ (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلائِكَةُ مِنْ خِيْفَتِهِ) فيذكِّر بقوَّة الله وقدرته، فيحثُّكَ ذلك أنْ تكون ذاكرًا للهِ، وممارسًا للدُّعاءِ، وقد ورد عنه عليه الصلاةُ والسَّلامُ أنَّه يتعرَّض لماء المطرِ عند نزوله، فالمطرُ رحمةٌ وبُشْرَى وسُقيَا وليس فوبيا وترقُّبًا وخوفًا وإرصادًا لحَرَكاته وسكنَاتِه.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store