Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

إرث الظاهري.. يبوتق الحياة التقليدية في المملكة

إرث الظاهري.. يبوتق الحياة التقليدية في المملكة

قراءة في كتاب "من هموم القرية"

A A
أفرزت البيئة السعودية قصصاً أدبية بطابع "نوستالجي" يختزن عبق المكان والزمان، إذ أكثر ما نجعت به وعلى أثره توشحت بامتيازات ذات خصوصية؛ هو رصدها لحياة أفراد المجتمع السعودي، وتوثيقها لتحوّلاته، وتجاربه الفكرية والتاريخية، وزيادة على ذلك رسمت البيوت والأناس وعطر الأحياء ولهو الصغار ومعيشة الكبار، لتكون مادة نواتها الحقيقة وجذورها الأصالة.

وتعاطت هذه النصوص واقع الأسرة السعودية من خلال أدوات الأدب الماهرة، وإمكانات الأديب الحاذقة، حتى غدا القارئ يخيل إليه أنه يمشي بين أزقة البلدة، وأنه ها هو يحل ضيفاً عند أحدهم في بيته الطيني.. عدا أنها نصوص محبوسة في الصفحات، ومصفّدة بين دفتي الكتب، على الرغم من رصانة تتميز بها، وواقعية تغمر أحداثها، وجمالية تلملم أجزاءها، مما يؤهلها إلى التمظهر في عالم السينما والتلفاز.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، تمكّن الأديب المعروف "ابن عقيل الظاهري"، الفائز مؤخراً بجائزة شخصية العام الثقافية، من سبر أغوار كلاسيكية الواقع السعودي، ونقل تفاصيلها الغنية وتموجاتها المدهشة، وذلك في مجموعة قصصية أصدرها عام 1415هـ بعنوان: "من هموم القرية: أربع قصص من البيئة النجدية"، تصلح أن تكون بذرة أعمال مصورة، تنعش الشاشة وتستفز قدرات صانعيها.

وأوضح ابن عقيل في مقدمة الكتاب بأنه كتب أربع قصص وفق فنيات القصة القصيرة، ولا شك أنها لفتة تستوجب التأمل في طاقة هذا العلم الموسوعي، الذي تعمق في الفقه والحديث والتفسير والفلسفة، وأنتج بها مؤلفات شتى من ضمنها هذه السردية البهية المحشودة بعناصر آلف بينها ريثما أخرج تحفة أدبية خالصة.

ويصف ابن عقيل قصصه قائلاً: "إنها من وحي البيئة القروية بنجد، فهن من القصص الواقعية وفق مذهب الواقعية الأدبي". ويتحدث عن القصة الأولى "الذقن المزيف" بقوله: "أصل مادتها سيرة الدراويش، فجعلت من سيرتهم واقعاً يُحتمل تصوره فأبدع خيالي في تجميع أمشاجه". ثم يرفد رأيه بالسينما والتلفاز: "يفسد القصص أحياناً عربجة فنية تثير الغثيان والسبب الممثل، ولا غرابة أن الممثلين يسمون في العصر العباسي الأول (أصحاب السماجات)". وأخيراً يقول: "استبقيت من فن السينما والمسلسل والفيلم عنصره الأدبي النصي".

كتاب



وتنطلق القصة في قرية تستيقظ لحظة تقهقر ليلها، حيث يوثّق الظاهري حركتها الوئيدة وتمغطها وتثاؤبها، وأيضاً يرصد بريشته الأدبية الحركات الخافتة أبان سير أحدهم إلى القهوة، واقتفاء آخر لنعاجه وأبقاره، وكذلك الصبي الذي يدرج إلى الُكتّاب، وفلاح ثاغم الرأس يعقد ألسن ثوبه ويحتضن زنبيلاً.

ويقرب ابن عقيل كاميرته السردية إلى أن يصل صوب الشخصية الرئيسية في القصة، وهو أبو سجدي، رجل من أعيان القرية تطابق حياته حياة الموسرين الاتقياء التي تضج بالرتابة، ويقص شريط يومه حين يصحو مع زوجه قبيل أذان الفجر، فيعبّ ما شاء من القهوة على فذات من الرطب، ثم يصليان التهجد إلى ما قبيل أذان الفجر الآخر، ويختمان صلاتهما بالوتر، وبعدئذ يذهب إلى المسجد، ويرفع صوته بالورد والذكر والنداء حتى يوقظ من غلبه النوم عن سماع النداء الثاني.

ويجلس "أبو سجدي" في المسجد إلى أن يسفر الصباح أسوة بالمصطفى ﷺ، ثم يؤوب إلى بيته ومعه ثلة من أصحاب الحالة الرقيقة يجيئون معه ليتناولوا قهوة الصباح، وهي وجبة أساسية في تلك الفترة، وفي متوع أول النهار يخرج إلى حلقة وعظ يلقيها قاضي البلد، ولا تلبث أن تنفض بعد ساعة، ويبقى القاضي وحده إلى ما قبيل الظهر يفتي الناس، ويحكم بين الخصوم من دون سجلات ضبط أو صكوك أو تحديد جلسة.

وما بين انفضاض الحلقة وأذان الظهر يحتشد "سوق الجلب" بحلقات يديرها الدلّالون، وهي تتنوّع ما بين حلقة بيع غنم، وأخرى للإبل، وثالثة للحطب، ورابعة لعوارك الأقط والسمن والجراد، وخامسة لتركة ميت.

ويؤوب أبو سجدي إلى بيته وبرفقته فقراء، وفي بعض الأيام يشاركهم درويش أو درويشان، ويعرّفهم ابن عقيل قائلاً: "الدراويش فلول من الأعاجم يتلعثمون بالعربية، ويفدون من الهند، والسند، وإيران وأفغانستان.. إلخ". ويأكلون معه "هجور" وهي من اللبن والتمر والزبد، وقد يأكلون "عفيسة" من التمر، ومسحوق الأقط، أو قشطة الزبد.

ويرقد أبو سجدي القيلولة ويستيقظ لصلاة العصر التي يتلوها درس قراءة في كتاب وعظي يمططه نصف أمي، وربما تلا ذلك إعلان من الإمام، أو المؤذن، أو الواعظ بأن فلاناً يدعو الحاضرين بعد الصلاة مباشرة إلى مائدة زواج أو شبهها.

ينتهي هنا الجزء التمهيدي في القصة.. ويبدأ ابن عقيل بعدها يسبك حبكته، إلا أن هذا المطلع الفاخر يزخر بمشاهدات صارخة من إلهام الحياة التقليدية في المملكة، تستدعي استقراء دقيق، وملاحظة فطنة للغوص في ملامحها.

ويبدو هذا النص مثل لوحة فنية؛ تشكّل أسلوب المعيشة في عهد سابق مثقل بالحكايات المناسبة للإذابة في وسائل متعدّدة، حيث عاش الأجداد في ذاك الزمن المتسم بالعفوية الخالي من التكلف، ونلحظ في ذات الوقت تباين الماضي والحاضر، والتطورات التي لحقت بالحياة في المملكة، إضافة إلى أنها تشي بالعلاقات الاجتماعية المتصفة بالسماحة والتعاطف، بجانب لمحات عن الأطعمة، والأزياء، والمهن. كما أن ابن عقيل طعّم قصته بألفاظ من اللهجة المحكية، وها نحن نقف أخيراً أمام مشهد باذخ بالجمال يبوتق الماضي السعودي من خلال ريشة أدبية رصينة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store