Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. أيمن بدر كريّم

الإفراط في تأنيب الضَّمير

A A
- الضَّمير، ذلك الجزءُ من الأنا، الذي يُطلِق عليه «فرويد» مُسمَّى «الأنا الأعلى»، وهو الذي يُغذِّي لدينا ما نسمِّيه «الشُّعور بالذَّنب»، ويظهر في صورةِ تقريعِ النَّفس وتوبيخها، وتضخيمِ الشُّعور بالقلق الاجتماعيِّ؛ خوفًا من العقاب، أو فقدان حبِّ الآخرين، وقد ينتجُ عنه عقاب الذَّات تكفيرًا عن خطاياها، ومن ذلك الامتناع عن الملذَّات والمسرَّات بصورةٍ مَرضيَّة تُحاول التخلِّي عن أيِّ إشباعٍ غريزيٍّ.

- ويقتاتُ بعض «علماء الدِّين» على هذا النَّوع من الخبرةِ الإنسانيَّةِ؛ لتعميقِ عُقدة الذَّنب والإغراق في تأنيبِ الضَّمير، وتغذية مشاعر الخوف والإحباطِ لدى تابعيهم، حتَّى يتسنَّى لهم توجيه أفكارهم، والتحكُّم في انفعالاتهم. يقول فيلسوف القوَّة «نيتشه»: (عالمُ الدِّين لا يمكنه السَّيطرة عليك، إلَّا إذا استطاع إقناعَك بأنَّك كتلةٌ متحرِّكةٌ من الخطايا والذُّنوبِ والآلامِ والحُطام؛ ليسوقَك بعدها كالنَّعجةِ إلى حظيرته).. وبالطبع ليسوا كلهم سواء.

- الإفراطُ في تأنيبِ الضَّمير، وتقريعُ النَّفس، والشُّعورُ الدَّائم بالتقصيرِ والإثم والخطيئة، والمداومةُ على الاستياءِ من الذَّات، يعتبرها بعض المُتديِّنين وسيلةً تعبُّديَّةً؛ لظنِّهم أنَّها تتَّفق مع نظرةِ اللهِ إليهم، وهذه الانفعالاتُ قد تتحوَّل إلى عناصرَ سَّامةٍ تتسلَّط على جهازهم العصبيِّ، وتُكرِّس الحزنَ الدَّائم والشَّقاءَ النفسيَّ لديهم، وتتركهُم فريسةَ الإحباطاتِ، وتحدُّ من سعادتهم وإنجازاتهم.

- لا بُدَّ أنْ نعيَ، أنَّ عددًا من السلوكيَّات التي تظهر ضارةً أو مزعجة لأحدهم، لا علاقة لها بالتديُّن الحقيقيِّ، لكنَّ الشَّخص يشعرُ حين مُمارستها بالذَّنب والخِزي المُرتبط بفتاوى تحريمِها ونصائحِ تجريمها.. يقول «فرويد»: (كُلَّما ازداد تزمُّت الرَّجل الصَّالح، ازداد تشكُّك ضميره.. والنَّتيجة أنَّ هؤلاء الذين يزدادونَ تديُّنًا، هم أنفسُهم الَّذين يكثُر اتِّهامهم لأنفسِهم، وهذا يعني أنَّ الفضيلةَ تُصادر بعضًا ممَّا تعدُنا من ثوابٍ).

- المرحلةُ الملَكيَّةُ بحقٍّ، هي مرحلةُ الطفولةِ الأولى والنَّزق، حيث التحرُّر من الشعور بالذَّنب، من المكْرِ والمعرفةِ وجَلْدِ الذَّات.. التحرُّر من ضغوطاتِ الواجب الاجتماعي والمسؤوليةِ الأخلاقية.

لذلك، أظنُّ -ولو بصورةٍ مثاليَّةٍ- أنَّ السَّعادة تكمُن في التحرُّر من الخوفِ من الموتِ.. ومن الحِرص على رضا النَّاس.. التحرُّر من التعلُّق.. ومن فرْط تأنيب الضَّمير.. التحرُّر من هوس التَّنافس والاستحواذ.. عندها تُصبح الحياةُ بسيطةً بالتلذُّذ في اللَّحظة، دون كراهيةِ الموتِ، ولا الحرصِ على الحياةِ، ومن غيرِ ضررٍ أو ضرارٍ.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store