Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. أيمن بدر كريّم

التجارب والمشاعر واللغة

A A
- التجاربُ المختلفةُ تعطيك خبْراتٍ مُختلفةً.. وتساعدكَ كثيرًا على تحديد هويَّتكَ وإثراءِ معرفتكَ وحكمتكَ.. لكنّكَ تحتاجُ إلى المرورِ بكثيرٍ منها، وأهمُّها، تلك التَّجارب المؤلمة. لذلك فهي قد تترككَ بوافرٍ من التوجُّس والخُذلان، والإصابات النفسيَّة الجسيمة.. إنَّها لا تمرُّ دونَ ضريبةٍ باهظةٍ. - ومع التقدُّم في العُمر، يُصابُ كثيرُونَ بأزمةِ مُراجعة المُسلَّماتِ، واختلالِ الحقائقِ، واضطرابِ المرجعيَّاتِ، فضلًا عن نوبات النَّدم، وتأنيبِ الضَّمير، والغرقِ في التَّساؤلاتِ الوُجوديَّةِ. ومع تعقُّد المشاعر، يُصبح مقدارُ الجهدِ المبذولِ في مُحاولةِ الشَّرح والإفهام، لا يتناسبُ مع النتيجةِ المرجوَّة من الكلام.

- التجربةُ الشخصيَّةُ، والانفعالاتُ المتولِّدةُ من خبراتٍ إنسانيَّةٍ خاصَّةٍ، يُمكن أنْ تكون هي المتحكِّم الوحيد في أحكام الشَّخص، بغضِّ النَّظر عن رجاحةِ عقلهِ، واتِّساع فكرِهِ واطِّلاعِهِ. لذلك يرى الفيلسوفُ «إمانويل كانط» أنَّ التجاربَ الشخصيَّة ضرورةٌ أصيلةٌ للإنسانِ لاكتسابِه الفكر، واستخدامه قُواه بصورةٍ نافعةٍ، بشرطٍ وحيدٍ، وهو أنْ يكونَ حرًّا حين اختباره تلك التَّجارب.

- مُعضلتنا الأساسيَّةُ هي اللُّغة.. الكلمات.. الألفاظ.. يبدو أنَّنا عالقُونَ في التَّرجمة.. ففي واقع الأمر، لا توجد كلماتٌ تصفُ مشاعرَنَا تمامًا، ولا لُغاتٍ منطوقةٍ تشرحُ انفعالاتِنَا وآلامَنا بشكلٍ دقيقٍ، نحن سُجناءُ لُغتنا مهما ابتدعنَا من تعابيرَ وألفاظٍ. لا فائدة. ولسوفَ يبقى لدينا مشاعرُ لا يمكنُ التَّعبيرُ عنهَا إلَّا بالبُكاء.. بالبُكاءِ فحسبْ.

- يبقى قولُ فيلسوف القرنِ العشرين «لودفيغ فتغنشتاين» نافذًا إلى حقيقةٍ عميقةٍ: (إنَّ أهمَّ الأسئلةِ عن الدِّينِ والأخلاقِ تُوجد خارجَ حدودِ فَهمنَا، وإذَا لمْ نستطِعْ أنْ نتكلَّم عنهَا بطريقةٍ ذات معنى، فمِن الأحسنِ أنْ نبقَى صامِتِينَ). ولهذا يرى «كامو» أنَّ الحياةَ بلا معنى يُمكن إقناع النَّاس على اختلافِ مرجعيَّاتهم به، وفي ذلك فرصةٌ كبيرةٌ للتحرُّر من أيِّ أعباءٍ وضغوطاتٍ، ومن ثمَّ اختيار المعنى المناسبِ لها، بحسبِ ما يفهمُه كلُّ فردٍ منَّا.

- وختامًا، جرِّب أنْ تصمتَ يومًا كاملًا. أنْ تنامَ طويلًا. أنْ تسترخيَ دونَ عملٍ. أنْ تتأمَّل وتتدبَّر. والأهمُّ أنْ تنفصلَ عن النَّاس. جرِّب أنْ تُفتِّش عميقًا في قلبكَ، وأنْ تبكِي كالطِّفل، أو تضحكَ مثلَ المجنونِ، أو ترقصَ مثلَ الممسوسِ. جرّب ذلكَ ليومٍ أو يومين، جرِّب ولا تُخبرنِي.. جرّب فحسْب!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store