Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. أيمن بدر كريّم

مُتلازمة فرْط الاستحقاق

A A
الاستحقاقُ الذاتيُّ ضرورةٌ للمحافظةِ على الكرامةِ والشُّعورِ بالثِّقة في النَّفس، وتجنُّب تبخيسِ الذَّات، وهو من المشاعر الصحيَّة التي يجبُ ضبطها، ومن الحقوقِ الطبيعيَّة المُشاعةِ لجميعِ النَّاسِ، والمكفولةِ لهم عقلًا وشرعًا وقانونًا، باختلافِ فئاتِهم ومرجعيَّاتِهم.

لكنْ من المُمكنِ للتَّرفِ والإفراطِ في الرَّفاهيَّة، أنْ يقدحَ في شخصيَّة أحدهم زنادَ النَّرجسيَّة المرَضيَّة، ويرفعَ لديه مُستوى الاستحقاقِ الشخصيِّ إلى درجةٍ غير منطقيَّةٍ، فيشعرَ بالانتفاخِ الزَّائد، ويوزِّع حِكَمه حول الثَّراء بصورةٍ مُستفِزَّةٍ للأسوياء، وهو يُخفي أهمَّ الحقائقِ، كحجْم ما ورثه مِن مالٍ، ومدى استفادتِهِ من واسطةِ أقارب وتسهيلاتِ مَعارف، وظروف اجتماعيَّة مُواتية للثَّراء. ففي أحيانٍ كثيرةٍ، يجبُ أنْ نعترفَ أنَّه لا فخرَ لنا في كثيرٍ من مُكتسباتِنَا الشَّخصيَّة، فالمُصادفةُ الجُغرافيَّةُ والزَّمنيَّة، قد تتجاوزُ الاستحقاقَ المُنضبِطَ بأشواطٍ طويلةٍ.

إنَّ كثيرًا ممَّا يفخرُ به بعضُ النَّاسِ ويُزايدُونَ به على غيرهم، قد لا يعدُو مجرَّد امتيازاتٍ تلقائيَّةٍ، نتيجةَ جيناتٍ وراثيَّةٍ جيِّدةٍ أو ممتازةٍ، ووجودهم رغمًا عنهم في ظروف اجتماعيَّةٍ مُعيَّنةٍ، من غير بذْلِ ما يؤهِّلهم بالضرورةِ فكريًّا واجتماعيًّا وعلميًّا لتلك الامتيازات.. إذ خلافًا لما تعلَّمناه في المَدارس، ليس كُلُّ مَن حَصَدَ كان قدْ زَرَعَ، ولا كُلُّ مَن وَجدَ كَانَ قدْ جَدَّ!.

من الرَّائع بالطَّبع أنْ يكون الشَّخص ثريًّا مُتمتِّعًا بما رزقه الله تعالى من مميِّزات، ولا عيبَ بتحدُّثه عن نِعَمِ اللهِ عليه وشكرهَا، باركَ الله له وزادَه من فضلِهِ، وليسَ المطلوبُ أنْ يلجأ أحدَهم إلى التَّواضع السَّاذج لدرجةِ ضعف الثِّقة في النَّفس، لكنَّ المُشكلةَ تكمُن في التطرُّف في تطلُّبه مزيدًا من الاستحقاقِ غير المُستحَقِّ، وإساءةِ الأدبِ والمُزايدةِ والابتذالِ، فمِن مَظاهر التفسُّخ القِيَميِّ، تحوُّل حيازةِ المالِ الوفيرِ، إلى مؤشرٍ على مدى الفضيلةِ الاجتماعيَّةِ الفكريَّة التي يتمتَّع بها أحدهم، فالمالُ نفسُه اكتسب قيمةً أخلاقيَّةً، وأصبحَ علامةً على استحقاقِهِ مَكانةً اجتماعيَّةً، بغضِّ النَّظرِ عن مستوياتِهِ الفِكريَّة المعرِفيَّة والسُّلوكيَّة.

لعلَّ من الشَّقاء أنْ يطمحَ المرءُ للاستحواذِ على أكبرِ قدْرٍ من المُمتلكاتِ المادِّيَّة والعينيَّة، ويفرطَ في الحِرصِ على الشُّهرةِ والمَكانةِ الاجتماعيَّةِ، ومن أصول الحكمةِ؛ الاعتزازُ بالذَّات واكتسابُ الفضيلةِ، فالاستحقاقُ الشخصيُّ لا يعني تطلُّب المَزيدِ، بل الاكتفاء والاستغناء، والترفُّع عن النقائصِ الأخلاقيَّةِ.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store