Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. صالح عبدالعزيز الكريّم

الخلل الجيني وما فوق الوراثة هما السبب!!

A A
في البداية أُذكِّركم بآخرِ ما جاء في مقالِي «هل داءُ السُّكَّري يسبِّب السَّرطان»؟ فقد كتبتُ: «لا شكَّ أنَّ مثلَ هذا القول -أقصد أنَّ داءَ السُّكَّري يُسبِّب السَّرطان- غيرُ مؤكَّدٍ بحثيًّا، أو طبيًّا، أو علميًّا، ويفتقر إلى الإثبات والدِّلالة البحثيَّة والعلميَّة الواضحة، وإنْ كان هناك دراساتٌ وأبحاثٌ توضِّح أنَّ العلاقة السببيَّة -إنْ وُجدت- فإنَّها تعود إلى الخلل الجينيِّ في الهرموناتِ وخلايا البنكرياس».

وأوضِّح أكثر هنا أنَّ أيَّ عضو يفقد وظيفته، ليس شرطًا أنْ يُصاب بالسَّرطان، والدَّليل الأكبر على ذلك بأنَّ الأعمى لا تُصاب عيناهُ بالسَّرطان، وكذلك الأخرس لا يُصاب لسانُه بالسَّرطان، والأبكم لا تُصاب أذناهُ بالسَّرطان، ذلك أنَّ التَّركيب البيولوجي موجود، لكن خاصيَّة الوظيفة غير نشطة لأسباب وراثيَّة (خلل وعطل في الجينات)، ينبني عليها انعدامُ الوظائف البيولوجيَّة والفسيولوجيَّة (الإبصار، الكلام، السَّمع)، وكذلك الحال بالنسبة للبنكرياس، فإنَّ انعدامَ وظيفتِهِ لا تعنِي إصابتهُ بالسَّرطان، والعكسُ صحيحٌ، إذا أُصيب أيُّ عضوٍّ في جسم الإنسان بالسَّرطان -لا قدَّر اللهُ- فإنَّ ذلكَ العضوَ، أو الجزءَ المُصاب منه يمكنُ أن تتعطَّل وظيفتُهُ، ويفقد السَّيطرة على أداء عمله، إمَّا كليًّا أو جزئيًّا، وفقًا للمرحلة التي وصل اليها السَّرطان.

أما سبب السرطان، فقد تعددت فيه النظريات والفرضيات، ولا أخفيكم سراً من عمري الطويل في الدراسات البحثية البيولوجية، ومع تعدد النظريات، فقد خرجت بنتيجة واحدة، ودونتها في بعض كتبي، مع السرد الكامل لنظريات التسرطن الأربعة، هي أن السرطان «قدر وراثي genetic» أي -سببه ١٠٠٪ الناحية الوراثية- لكن يتحكم بهذا القدر الجيني (الوراثي) عوامل حياتية تسمى ما فوق الوراثة Epigenetics وهي متعددة، (يمكن مراجعة مقالي بعنوان: الوراثة وما فوق الوراثة)، ومثالُ ذلك واضحٌ جدًّا في التَّدخين كأحد العوامل فوق الوراثيَّة السلبيَّة المتسبِّبة في إحداث السَّرطان في الجهاز التنفسيِّ؛ بسببِ مكوِّنات الدُّخَّان المُسرطنةِ، وذلك يؤكِّد ما يحدثُ للجينات من خللٍ، والتباين في الإصابة بالسَّرطان بين المدخنين واردٌ، ويعودُ إلى عوامل أُخْرى كاستعداد الجينات للتحوُّل والتغيُّر الخلويِّ، وإلى قوَّة الجهاز المناعيِّ ومقاومتِهِ للتحوُّل، ومحاربة الخلايا السَّرطانيَّة بعد التحوُّل، وإلى -كذلك- جرعة التَّدخين المطلوبة لتحويل الخلايا إلى خلايا سرطانيَّة (مدَّة التدخين)، وبالإضافة إلى الدور الذي تلعبه عوامل ما فوق الوراثة في التحكُّم بتلك الجينات -تثبيطًا وتنشيطًا- فالجيناتُ يمكن التحكُّم بها -بأمرِ اللهِ- من خلال الانسانِ نفسه، كما قال تعالى (بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)، وقد شرحتُ في مقالٍ سابقٍ بعنوان أسباب العافية، دور ما فوق الوراثة في الصحَّة والعافية، وهذا ما دلَّت عليه معظمُ الأبحاث البيولوجيَّة الحديثة، فالغذاءُ والرياضةُ والنَّومُ والعلاقاتُ الاجتماعيَّةُ والرَّاحةُ النفسيَّةُ والرُّوحيَّةُ كلُّها لها دورٌ كأسبابٍ ثانويَّةٍ في التَّسريع بطلائع الجينات الورميَّة أنْ تتحوَّل إلى سرطان، أو لا تتحوَّل، فالذي يحدثُ في سرطانِ البنكرياسِ ليس سببُه تعطُّل وظيفتِهِ، وعدم إفراز الإنسولين، إنَّما يعودُ إلى استعدادِ طلائعِ الجيناتِ الورميَّةِ Proto - Oncogene الموجودةِ أصلًا في خلايا البنكرياس، والتي تتحكَّم بدورةِ حياةِ الخليَّة، وتمييزهَا وتحوُّلهَا إلى خلايا سرطانيَّة، والتي قد تستحدث بأحد عوامل ما فوق الوراثة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store