Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
طارق علي فدعق

أمّــــــــــا !

A A
عنوان المقال يرمز إلى التعجب.. ويرادف كلمات مثل: «عجيب!» و»من جد!» و»مو معقول».. وموضوعنا عن الذاكرة الزائفة.. كلنا نتخيل أن ذاكرتنا هي عبارة عن أوعية تُخزَّن فيها أحاسيس، أو أحداث معينة عبر تاريخنا لنسترجع بعضها.. سواء كانت صور أو روائح، أو طعم، أو لمسات، أو أصوات، أو أحداث.. ولكن للأسف أن هذا المفهوم لا يُمثِّل الواقع.. ذاكرتنا تخضع لمؤثرات كثيرة، وبعض منها غير متوقعة.. من الغرائب أن تكون هناك «خيانة» للحقائق بطرق غير متوقعة، وأن تتعدى مجرد النسيان المؤقت أو الدائم.. هناك مجموعة من التجاوزات التي تشمل على سبيل المثال نَسب الحقائق للمراجع المغلوطة، سواء كانت من الأفراد، أو الإعلانات، أو في فيضان المعلومات غير الصحيحة؛ التي تصلنا عبر بعض الوسائط الاجتماعية باستمرار. ومن أوجه «خيانة» الذاكرة: استرجاع المعلومات المصبوغة بانطباعات «منحازة»، أو بسبب اعتقادات معينة، ومنها على سبيل المثال أن معظمنا يعتقد أن أي شخص عمره فوق السبعين سنة مسالم وهادئ، والواقع هو غير ذلك.. وهناك «خيانة» ذاكرة من نوع آخر، سببها التكرار المزعج الأشبه «بالزن» من جهات مختلفة.. وقد يقودنا إلى الاعتقاد أن بعض التجارب مقرونة بالألم الحسي والمالي، ومن الأمثلة على ذلك زيارة عيادات الأسنان.. وهناك أيضاً قوة الإيحاء المتكرر من جهات مختلفة، التي تجعل ذاكرتنا متأثرة بمجرد رؤية صورة، ومنها على سبيل المثال رؤية الجدول الدوري في الكيمياء، الذي كان يُجسِّد مفهوم «البعبع» فكرياً.

والموضوع في غاية الخطورة، فبسبب الذاكرة الزائفة التي تنتج عن بعض العناصر المذكورة أعلاه، تنتج تخيّلات قد تكون بعيدة عن الواقع.. وهناك المزيد، فعالم الذاكرة الوهمية لا يقتصر على البشر فحسب.. ففي عالم المخلوقات في البر، والبحر، والجو تلعب الذاكرة إحدى أقوى الأدوار في إطار سلوكيات الكائنات من الحشرات إلى الطيور، وجميع الكائنات الأخرى.. يشمل ذلك الحركة، والملاحة، والصراعات، والتزاوج، ورعاية الصغار.. وكلها تخضع للتخريب من خلال التأثير على الذاكرة باستخدام الحيل المختلفة، سواء كانت أسلحة كيميائية، أو فيزيائية، أو مجرد «بكش».. وسأناقشها في مقالات قادمة إن شاء الله.

وهناك ما هو أهم مما ذُكِرَ أعلاه، فلو راجعنا تاريخ العالم العربي بشكلٍ عام، وتاريخ فلسطين بشكلٍ خاص، سنجد أن الذاكرة الكاذبة لعبت إحدى أقوى الأدوار في تشكيل صورة عالمنا في مدونات تاريخ العالم. ولو نظرنا لمكانة علم التاريخ في العالم العربي؛ سنجد أنه لا يحمل المكانة التي نجدها في الغرب، وهذه بصمة مقصودة من مخلفات الاستعمار، الذي وضع قواعد المناهج العلمية منذ أكثر من مائة عام.. يا ترى كيف سيُدوّن تاريخ الكارثة الإنسانية الكبرى في غزة.. وهل ستكون هناك مصداقية في تدوين ذاكرة الحرب على المدنيين الأبرياء في فلسطين.

* أمنيـــــة:

من نعم الله علينا التي لا تعد ولا تحصى، هي أننا ننشط ذاكرتنا باستمرار خلال الصلوات وتلاوة القرآن، وبالتالي فنتمتع بحماية كبيرة ضد مخاطر الذاكرة المزيفة.. أتمنى أن تكون ذاكرتنا صادقة على المستوى الشخصي، والأسري، والتاريخي، وأن تُسجَّل حقائق الحرب على أبرياء غزة بمصداقية، من أجل تحقيق أبسط المبادئ الإنسانية.. وندعو الله أن يرفع عنهم الظلم والضرر، وهو من وراء القصد.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store