Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. أيمن بدر كريّم

في معنى الاغتراب

A A
- الاغترابُ.. مفهومٌ يُشيرُ إلى الشُّعورِ العميقِ لدَى الإنسانِ بالقلقِ وعدمِ الاستقرارِ وسْط مجموعاتِ النَّاسِ، نتيجةَ فقدانِ كينونةِ وجودِهِ، وذوَبانِ شخصيَّتِهِ الحقيقيَّةِ المبنيَّةِ على اختياراتِهِ الحُرَّةِ، وانغماسِهِ في وجودٍ زائفٍ يُحدِّدهُ الآخرُونَ لَهُ، وقراراتٍ يفرُضُها المُجتمعُ عليهِ. إنَّه تحوُّل العَلاقاتِ الإنسانيَّةِ إلى آليَّةٍ نمَطيَّةٍ يتحكَّمُ فيها الاستثمارُ والاقتصادُ، وتعتمدُ على ضرورةِ الانضمامِ للمجموعةِ، على الرُّغم من الشُّعورِ المُفرِطِ للفردِ بالوَحدةِ النَّفسيَّةِ وعدمِ الأمانِ، وقلقِه من الاختلافِ، مع استحالةِ اختيارِهِ الاعتزالَ من غيرِ دفعِهِ ثمنًا باهظًا.

- تعملُ المُجتمعاتُ الاقتصاديَّةُ الحديثةُ على مُحاولةِ القضاءِ على التفرُّد، وطبعِ نسخٍ بَشريَّةٍ مُتشابهةٍ لا يسعُهَا إلَّا التَّفكيرَ الأُحاديَّ المُتشابهَ.. وتشجيعهَا على الاستهلاكِ الرديءِ، ومن ذلك قراءةُ الكتبِ الغبيَّةِ ونشرُ التَّفاهةِ الثَّقافيَّةِ، حتَّى يُصبحَ العقلُ واحدًا مِن مجموعةٍ كبيرةٍ من العُقولِ الخاملةِ، الخاضِعةِ، البليدةِ والبلْهاءِ. فمأساةُ الإنسانِ أنَّه يبتعدُ عن كونِهِ إنسانًا بالفطرةِ، وينتكسُ إلى مستوًى غيرِ معهودٍ مِن الاغترابِ والتَّيهِ والشَّقاءِ الوُجوديِّ. يرى «إريك فروم» أنَّ الاغترابَ حالةٌ لا يشعرُ بها الفردُ بأنَّه المالكُ الفِعليُّ لطاقتِهِ وثروتِهِ، بل كائنٌ غيرُ مُستقرٍّ، يستندُ وجودُهُ على توفُّرِ قوى خارجيَّةٍ لا تمتُّ بأيِّ صِلَةٍ لذاتِهِ.

- وببساطةٍ، فمِن أهمِّ مَعانِي الاغترابِ: أداءُ عملٍ مُملٍّ رُوتينيٍّ مُتكرِّرٍ، كجزءٍ من سلسةِ إنتاجٍ ضخمةٍ، يفقدُ الشَّخصُ معهَا متعتهُ على العَيشِ كإنسانٍ له تفرُّدُهُ وخصوصيَّتُهُ، وتحجُب عنهُ فُرَصَ الإبداعِ والإثراءِ والنُّموِّ. ومن أجلِ تثبيتِ نزعتِهِ الاستهلاكيَّةِ، كانَ مِن الضَّروريِّ أوَّلًا العملُ على تفريغِ إنسانِ العصرِ الحديثِ من القِيَمِ الرُّوحانيَّةِ والمبادئِ الأخلاقيَّةِ، وتغريبِهِ عن نفسِهِ، ثمَّ اختطافِهِ نفسيًّا وفكريًّا عن طريقِ إيهامِهِ بالحصولِ على السَّعادةِ من خِلالِ فرْطِ الاستهلاكِ والامتلاكِ الماديِّ.

- يرى (هيدجر) أنَّنا كلَّ يومٍ نواجُهُ العَدَمَ، ونتَّجهُ إليهِ سريعًا.. وبذلك ينبغِي علينَا جميعًا تقديرُ اللَّحظاتِ الوجيزةِ التي نعيشُها في الكونِ مُتَّحدِينَ معَهُ بِروابِطَ وجوديَّةٍ، حتَّى يُمكننَا الاستمتاعُ بِحياتِنَا القصيرةِ، وتخفيفُ مَشَاعرِ الاغترابِ. وأرَى أنَّ على أحدِنَا أنْ يكونَ مُمتنًّا بصورةٍ عميقةٍ، إنْ هو وجدَ قيمةً مُعتبرةً لعملِهِ وحياتِهِ، وإنسانًّا يُشاركه أفكارَهُ، ويحتوِي مَشَاعرَهُ، ويتفَهَّم حيْرتَهُ، ويُهوِّن عليهِ غُربتَهُ، ومن الفضيلةِ أنْ يكونَ لطيفًا في كُلِّ أحوالِهِ معَ النَّاس، ولا يعجَز عن عمَلِ الخيرِ للخيرِ نفسِهِ، ثمَّ يسأل اللهَ اللُّطفَ والطُّمأنينةَ، والخَلاصَ.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store