Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. أيمن بدر كريّم

الفردانية والاجتماعية

A A
على الرُّغم من أنَّ الفردانيَّةَ والاستقلاليَّةَ أمران مرغوبَانِ لاستجلابِ السَّعادةِ، لكنْ واقعيًّا، تُعدُّ العَلاقاتُ الجيِّدةُ والتَّواصلُ الصِّحيِّ بينَ أفرادِ العائلةِ والمجتمعِ، مِن أهمِّ أسبابِ التَّناغمِ المُجتمعيِّ، والشُّعورِ بالسَّعادةِ والقيمةِ الفرديَّةِ. وبالفرْدانيَّةِ، أقصدُ القُدرةَ الشَّخصيَّةَ على التفرُّدِ والاستقلاليَّةِ النفسيَّةِ الفكريَّةِ، والتَّماهِي مع الثَّراءِ الداخليِّ، من غيرِ وجوبِ نظرةِ الآخرِينَ، وهذَا صعبٌ للغايةِ على مُعظمِ النَّاسِ.

إنَّ سعادةَ الإنسانِ مُرتبطةٌ بِسعادةِ مَن يُعايشهُمْ ويتواصلُ معهُمْ في مُحيطِهِ، إذْ مِن الواضحِ عِلميًّا أنَّ السَّعادةَ تنتقلُ بالعدوَى بينَ الأشخاصِ. لذلكَ ليسَ مِن الدَّقيقِ أنَّ السَّعادةَ قرارُ الفردِ، فالإنسانُ أسيرُ ظروفِهِ الاجتماعيَّةِ والبيئيَّةِ والنفسيَّةِ، وجيناتِهِ الوراثيَّةِ فوقَ ما يظنُّ.

إلَّا أنَّ الإنسانَ بفطرتِهِ السَّويَّةِ ووظائفِهِ الحيويَّةِ وقدرتِهِ النَّفسيَّةِ، غيرُ مهيأٍ للنَّمطِ السَّريعِ والمُتداخلِ، ومستوَى الضُّغوطاتِ النفسيَّةِ، وتعقُّدِ الارتباطاتِ الاجتماعيَّةِ للحياةِ العصريَّةِ الحديثةِ، وبالنتيجةِ، يدفعُ الثَّمنَ غاليًا من صحَّتهِ البدَنيَّةِ والعقليَّةِ. ولذلكَ، يبدُو لي واضحًا أنَّ الفردانيَّةَ والعُزلةَ، هُما الأصلُ في طبيعةِ الإنسانِ، وليسَ الاجتماعيَّة والاختلاط، فالإنسانُ كائنٌ نفعيٌّ، لا اجتماعي كمَا في المفهومِ العامِ.

إنَّ الدعوةَ إلى الاستقلاليَّةِ ليستْ أنانيةً، بل دعوةٌ صحيَّةٌ إلى التفرُّدِ والإبداعِ المُستقلِّ عن الثقافيَّةِ الأُحاديَّةِ التي تميِّز القَطيعَ. فالإبداعُ ثمرةُ التفرُّدِ والتمرُّدِ على التيَّارِ السَّائدِ، ورفضُ الذَّوبانِ في المجموعِ، وهو نتاجُ الامتلاءِ والنُّضجِ والتفاعلِ، بعيدًا عن إحباطاتِ العقلِ الواعِي والتَّفكيرِ النّمطيِّ. فالمُجتمعُ يُكرِّسُ فكرةَ الاجتماعِ والارتباطِ، وتقييدِ مصالحِ الفردِ وتخويفِهِ من فكرةِ الانفصالِ، وهو بهذَا يمنعُ عنهُ أساسَ الكينونةِ الإنسانيَّةِ، وهي الحُريَّةُ، فضلًا عن الاستقلالِ المادِّيِّ، الذي يُعدُّ أساسَ امتلاكِ القرارِ الشَّخصيِّ.

يبدُو حقًّا أنَّ الوضعَ الاجتماعيَّ والحالةَ الأخلاقيَّةَ المُعاصرةَ، يُشجِّعانِ على تجنُّبِ الاختلاطِ بالنَّاسِ، نتيجةَ اختلالِ العَلاقاتِ الاجتماعيَّةِ، وتنامِي الأنانيةِ والعنفِ السُّلوكيِّ ونهمِ الاستحواذِ، وما يتبعهُ من أذى. إلَّا أنَّني أظنُّ أنَّ كثيرينَ يعتنقُونَ التفرُّدَ بصورةٍ مرضيَّةٍ ضارَّةٍ نفسيًّا وسلوكيًّا واجتماعيًّا.

إنَّ الفردانيةَ -على استحالتها- هي قمّةُ الحُريَّةِ.. أنْ تكونَ مُستقلًّا مُستغنيًا غيرَ مبالٍ.. تفعلُ ما ترغبُ وتتخلَّى عمَّا لا تريدُ.. ألَّا يُخبركَ أحدٌ عن مُشكلاتِهِ، ولا تخبرَ أحدًا عن تحرُّكاتِكَ.. أنْ تنامَ وتصحوَ دونَ أنْ يوقظَكَ إنسانٌ.. أنْ تفكَّ ارتباطَكَ بكلِّ من حولِكَ، ثمَّ تعودُ غريبًا لا يعرفُكَ النَّاسُ ولا تعرفُهم، وهذَا كمَا أشرتُ، أمرٌ -يا للأسف- مُستحيلُ الإمكانِ!.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store