Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

الدرعية.. المدينة والدولة

الدرعية.. المدينة والدولة

A A
إن للمدن دورًا في التطور السياسي وظهور الدول؛ ففي أوروبا حينما بدأت المدينة تنمو وتزيد من ثرواتها أصبح لها نفوذها السياسي، وبذلك ارتبط ظهورها بتلك الصورة في انتقال أوروبا إلى عصر جديد هو عصر النهضة الحديثة، ولا يخفى علينا "الدول المدن" التي ظهرت في إيطاليا في العصور الوسطى، كجِنْوة والبُندقية وبيزا وغيرها، حيث كانت هذه المدن المزدهرة اقتصاديًّا وعلميًّا النواة الأولى لحضارة إيطاليا العصرية.

وفي التاريخ الإسلامي تُعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة نقطة انطلاق في تاريخ إنشاء المدن الإسلامية من خلال المبادئ الشرعية والاجتماعية التي وضعها المصطفى صلى الله عليه وسلم لهذه المدينة؛ فكانت رابطة الدين والأرض جامعة للمهاجرين والأنصار، وبذلك أصبحت المدينة المنورة وطنًا للمسلمين يعيشون فيه، وصارت أول عاصمة في تاريخ الإسلام ومركزًا سياسيًّا وإداريًّا اكتسب صفة المدنية بمبادئها وتخطيطها الفذ، ومنها تمّ إنشاء بعض المؤسسات والتنظيمات التي كانت الأساس الأول لهذه الدولة التي غذت إمبراطورية واسعة الأرجاء بفضل الفتوحات الإسلامية المظفرة.

وقد سارتْ عجلة التاريخ بسيرها الحثيث منذ صدر الإسلام الأول إلى منصف القرن التاسع الهجري/ السادس عشر الميلادي، وتحديدًا في سنة 850هـ/ 1446م، حين استقرّ الأمير مانع المريدي -جدّ أسرة آل سعود الكرام- في بلدة بنجد على ضفتي وادي العِرْض -فرع وادي حنيفة- بين ربوتين، تلك البلدة التي صارتْ تُعرف بـ "الدرعية"، نسبةً إلى ابن عمه عليّ ابن درع -صاحب حُجر اليمامة- الذي أشار على مانع بالنزول في تلك المنطقة، وأضحتْ عاصمة للدولة السعودية الأولى حين قيامها سنة 1139هـ/1727م وسيّدة للبلدات النجدية جميعها.

ولم يكن نزول مانع بالدرعية اعتباطًا وضربًا من الحظوظ، بل لتوافر عوامل إقامة المدن من نواحي جغرافية واقتصادية؛ فهي تقع على وادي حنيفة الذي يُعدّ من أهم أودية الجزيرة العربية التي تزخر بعدد كبير من السكان منذ عهد الجاهلية، وكان يمثل محطة هامة لقوافل الحج والتجارة في وسط الجزيرة العربية منذ قرون، كما تضمّن الموقع موضعي الربوتين، وهما ربوة غَصيبة الذي تمّ اتخاذه مركزًا للحُكم، وربوة المـُلَيبيد الذي -لخصوبة أرضه- صار المركز الزراعي للدرعية، وبذلك أصبحت الدرعية منطقة جذب سكاني، ومركز سياسي واقتصادي، ثم زاد من أهميتها عندما جعلها الأمير مرخان (ابن إبراهيم بن موسى بن ربيعة بن مانع) إمارة في أول القرن الحادي عشر الهجري/السابع عشر الميلادي، ثم زاد من أهميتها أكثر وأعظم حين تولّى الإمام محمد بن سعود (ت1179هـ/1765م) إمارتها سنة 1139هـ/1727م مؤسّسًا بذلك ما غيّر وجه تاريخ المنطقة وهو إقامة الدولة السعودية الأولى.

ولقد شهدت الدرعية استقرارًا داخليًّا منذ تولي الإمام محمد بن سعود إمارتها، خصوصًا انه اتّبع في قيادته سياسة جديدة في المنطقة قائمة على إيجاد الوحدة أولاً؛ لاسيما إذا علمنا أن حكمه قد اتّسم بالاستقلال السياسي وعدم الولاء لأي قوة إقليمية، كما كان عليه حال الزعامات الأخرى في نجد حينها؛ وكانت أولى خطوات الإمام محمد في تحويل مدينته إلى نواة لدولة مكتملة الأركان، عندما وحّد شطري الدرعية وجعلها تحت حكم واحد بعد أن كان الحُكم متفرقًا في مركزين، كما اهتم في تدعيم سلطة الأمراء في منطقته واحتوائهم حتى استطاع أن يوحد معظم منطقة نجد خلال الفترة الممتدة بين سنوات 1159-1179هـ/1746-1765م، وهي المنطقة التي ما عرفتْ الأمن والاستقرار بسبب الغزوات التي كان يشنّها بعض النجديين ضد بعضهم لأجل السّلب والنهب.

وقد انعكست هذه السياسة التي أقامها الإمام محمد بن سعود -وسنّها سُنّةً حسنة لبنيه من بعده- في مناصرة دين الله، وإكرام علماء السُّنة وتطبيق الشريعة، انعكست على انتشار الأمن في نجد وتأمين طرق الحج والتجارة، مما جعل الدرعية ليس عاصمة سياسية واقتصادية للدولة فحسب، بل وقبلة للعلماء ممن يبحثون عن الحماية في الأرض المستقرة الآمنة لنشر علمهم؛ فكان اختيار الشيخ محمد بن عبد الوهاب (ت1206هـ/1792م) للدرعية اختيارًا موفقًا مباركًا بعد أن أُخرج من بلدة العُيينة سنة 1158هـ/1744م، فاستظلّ بظلّ حماية الإمام محمد بن سعود، وكان لهذه الحماية أبلغ الأثر في نشر العلم ورعايته.

ونتيجةً لذلك، ومن خلال تلك المعطيات والتطورات في تلك المنطقة وما حولها، فإن ما يمكن قوله أن الامام محمد بن سعود بفكره الثاقب كقائد سياسي فذّ قد نقل دولته إلى مرحلة جديدة عندما جعل من الدرعية عاصمة سياسية واقتصادية لدولة فتيّة، ومركزًا علميًّا معتبرًا، وهي الخطوات التي غيّر بفضلها -بعد فضل الله تعالى- ميزان القوة المحلية لصالحه، فجعل أساس هذه الدولة قائم على منهج ديني واجتماعي وسياسي مكّنها من البقاء والاستمرار في جميع أدوارها الثلاث لعقود طويلة من الزمن.

بقلم : نجود الفقير

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store