Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. بكري معتوق عساس

سألوني: لِمَ لَمْ أرثِ أبي؟!

A A
من أجملِ ما قِيلَ شعرًا في عصرِنَا الحديثِ، تلكَ القصيدةُ التِي رثَى فيهَا الشَّاعرُ المصريُّ الكبيرُ أميرُ الشعراءِ «أحمد بن علي شوقي» -رحمَهُ اللهُ-، أبَاهُ عليًّا، عندمَا وافتهُ المنِّيَّةُ في سنةِ 1897م، كيفَ لَا، واللهُ يقولُ: «وَبِالوَالِدَينِ إِحْسَانًا»؟!

إنَّهُ رثاءٌ صادرٌ عن فجيعةٍ موجعةٍ على فراقِ الأبِ الحانِي، الذي كانتْ عواطفهُ تغمرُ ابنَهُ، والانسجامُ يسودُ بينهمَا؛ لدرجةِ أنْ أصبحَا كأنَّهمَا روحٌ واحدةٌ، في جسدَينِ مختلفَينِ، لمتانةِ صِلَةِ الأبوَّةِ بالبنوَّةِ.

كانَ أبوهُ محبَّبًا إليهِ، أثيرًا إلى نفسِهِ، قريبًا إلى قلبِهِ، وكانَ بينهمَا صحبةٌ، وعلاقةٌ متينةٌ، ورابطةٌ صلبةٌ، فإذَا بهِ لمَّا فَقَدَهُ اهتزَّ هزَّةً كبيرةً، لكنَّ العجيبَ أنَّ «شوقي» لمْ يقلْ فيهِ شيئًا من الشِّعرِ، وهُو كبيرُ الشُّعراءِ وأميرُهُم، صمتَ حتَّى بدأ النَّاسُ يلومُونَهُ على ذلكَ، ويقولُونَ لهُ: هذَا أبوكَ أقربُ النَّاسِ إليكَ، وأحبُّهم لديكَ، فكيفَ لا ترثيهِ؟ فإذَا بِهِ بعدَ ستةِ أشهرٍ يبدأُ «شوقي» قصيدَتهُ الرَّائعةَ، بقولٍ لمْ يعتدْ عليهِ الشُّعراءُ:

سَألُونِي لِمَ لَمْ أَرثِ أَبِي؟

وَرِثَاءُ الأَبِ دَينٌ أَيُّ دَينٍ

أيُّهَا اللُوَّامُ مَا أَظلَمكُمْ

أَينَ لِي العَقلُ الَّذِي يُسعِدُ أَينَ؟

- ثمَّ مَا لبثَ «شوقي» أنْ يؤكِّدَ أنَّ النَّاس كلَّهم سوفَ يموتُونَ، وحتَّى النبيَّ محمد بن عبدالله، سيَّدَ الأوَّلِينَ والآخرِينَ -صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّم- قدْ ماتَ، ولا نكادُ نجدُ عاطفةً للشَّاعرِ، فأحاسيسهُ منفعلةٌ، فهو يتحدَّثُ عن قوَّةِ الموتِ فيقولُ:

سألوني لِمَ لَمْ أَرثِ أبي

ورِثاءُ الأبِ دَينٌ أيُّ دَينْ

أيُّها اللُّوَّامُ ما أظلمَكُم

أينَ لِي العَقْلُ الَّذِي يُسعِدُ أينْ؟

يَا أَبِي مَا أَنْتَ فِي ذَا أوَّلٌ

كُلُّ نَفْسٍ لِلمَنَايَا فَرْضُ عَينْ

هَلَكَتْ قَبلَكَ نَاسٌ وقُرًى

وَنَعَى النَّاعُونَ خَيرَ الثِّقلَينْ

غَايةُ المَرءِ وَإِنْ طَالَ المَدَى

آخِذٌ يأخذُهُ بِالأَصْغَرَينْ

وَطَبِيبٌ يتوَلَّى عَاجِزًا

نَافِضًا مِن طِبِّهِ خُفَّي حُنَينْ

تَنفُذ الجَوَّ علَى عِقبانِهِ

وتُلاقِي اللَّيثَ بينَ الجَبَلَينْ- ويستمرُّ شوقِي في شرحِ العلاقةِ القويةِ التي تربطهُ بأبيهِ في ثنايَا القصيدةِ، فيقولُ:

وتَمشَّينَا يَدِي فِي يدِهِ

مَنْ رَآنَا قالَ عنَّا (أَخوَينْ)

طَالَمَا قُمْنَا إلى مَائِدةٍ

كَانتْ الكِسرةُ فيهَا كِسْرَتَينْ

وَشَرِبنَا مِن إِناءٍ وَاحدٍ

وَغَسَلنَا بَعدَ ذَا فيهِ اليَدَينْ

نَحنُ كُنَّا مُهجةً فِي بَدنٍ

ثُمَّ صِرْنَا مُهجةً في بَدَنَينْ

- ويستمر شوقي في شرح مدى حبه لأبيه فيقول:

أَنَا مَنْ مَاتَ وَمَنْ مَاتَ أَنَا

لِقَي المَوتَ كِلانَا مَرَّتَينْ

انْظرَ الكَونَ وَقُلْ فِي وَصفِهِ

كُلُّ هذَا أصلُهُ مِن أَبَوَينْ

مَا أَبِي إِلَّا أَخٌ فَارَقتُهُ

وُدُّهُ الصِدْقُ وَوُدُّ النَّاسِ مَينْ

إلى أنْ يقولَ في ختامِ القصيدةِ:

لَيتَ شِعْرِي هَلْ لَنَا أنْ نَلتَقِي

مَرَّةً أمْ ذَا افْتِراقُ الَملَوَينْ

وَإذَا مُّتُّ وَأُودِعْتُ الثَّرَى

أَنَلقَّى حُفرَةً أمْ حُفرَتَينْ؟!

قصيدة يعجز اللسان عن وصف المشاعر الملتهبة والأحاسيس العميقة التي فيها، إنها عبارات عفوية في إطارها، مؤثرة في معانيها، تبرز رابطة الأب بالابن، وارتباط الابن بالأب، في تلاحم أسري تجعلنا نشعر من خلال ذلك الرثاء؛ بأنه نابع من القلب، متعمق في الوجدان، فيه نبض صادق بالمودة وتمازج في العواطف.

إنَّ فقَدَ أحدَ الوالدَينِ أمرٌ جللٌ، ولهذَا فإنَّ شوقي عندمَا صمتَ ليسَ لأنَّهُ لا يريدُ أنْ يرثِيَ أبَاهُ، لكنَّهُ صمتَ لأنَّ لسانَهُ لمْ يطاوعهُ، وقلبهُ امتلأَ حُزنًا، فبقِيَ كاتمًا إلى أنْ لامَهُ النَّاسُ، فقالَ هذِهِ القصيدةَ الرَّائعةَ.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store