Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
طارق علي فدعق

عســـــكرة

A A
في الحركةِ بركةٌ -بإذنِ الله-، ولكنْ في العديدِ من الأحيانِ يضيفُ إليها البشرُ «القوَّة»، أو التهديد باستخدامِها لتصبحَ مدعمةً بالذراعِ. وعبرَ التاريخِ عندمَا تطوَّرت وسائلُ النقلِ، تطوَّرت بجانبِهَا وسائلُ حربٍ لحمايةِ تلكَ الوسائلِ، أو لتحقيقِ مصالحَ أخْرى.. الدباباتُ، والعرباتُ المدرعةُ جاءتْ بعد تطوُّر وسائلِ الاحتراقِ الداخليِّ، والسفنُ الحربيَّةُ جاءت بعد المدنيَّةِ، والطَّائراتُ الحربيَّةُ جاءتْ بعد المدنيَّة.. وأمَّا في الفضاءِ فكانتْ «العسكرةُ» هي الأساسُ، وسبقت التطبيقاتُ المدنيَّة.. بنهايةِ الحربِ العالميَّةِ الأولى في نوفمبر 1918، وضمنَ أساسيَّاتِ معاهدةِ «فرساي» التي رسمتْ خارطةَ الطريقِ «للسَّلام العالميِّ» الجديدِ، حدَّدت الدولُ المنتصرةُ العديدَ من الشروطِ الشديدةِ ومنها: منعُ الدولِ المهزومةِ، وبالذاتِ ألمانيَا، من الاستمرارِ في التصنيعِ الحربيِّ في الأسلحةِ البريَّةِ، والبحريَّةِ، والجويَّةِ.. ولكنَّهم تركُوا ثغرةُ غيرَ مقصودةٍ في مجالِ الصواريخِ.. وتجمَّعت الاهتماماتُ في علومِ وهندسةِ الصواريخِ في ألمانيا في المجالاتِ المختلفةِ من الدفعِ، والوقودِ، والملاحةِ، والطيران.

وعندمَا قامت الحربُ العالميَّةُ الثانيةُ في سبتمبر 1939؛ كانت ألمانيا تتمتَّعُ بميزاتٍ نسبيَّةٍ هائلةٍ مقارنةً بالولاياتِ المتحدةِ، والاتحادِ السوفيتي، وبريطانيا في هذَا المجالِ، وتبلورتْ تلكَ الميزاتُ النسبيَّةُ في الصناعاتِ المتقدِّمة، والاستخداماتِ العسكريَّةِ للصواريخِ.. وعندمَا فازَ الحلفاءُ على ألمانيَا عام 1945، كانتْ إحدى أهم غنائمِ الحربِ هي العقول المتميِّزة في العديدِ من المجالاتِ ومنها تقنياتُ الصواريخِ.. أخذت أمريكا مجموعةَ علماء، وأخذت روسيا مجموعةً أخرى، واستفادَا منهم في تكوينِ قطاعِ الفضاءِ الأمريكيِّ والسوفيتيِّ الذي تمَّ تكريسهمَا أساسًا للمجهودِ الحربيِّ.. معظم الأنشطةِ الفضائيَّةِ منذ عام 1945 كانت -ولا تزال- مكرَّسة للقطاعاتِ العسكريَّةِ.. ومن هنا يتأكَّد مفهومُ «العسكرةِ» الفضائيَّةِ.. الصواريخُ التي حملتْ روَّاد الفضاءِ، كانَ العديدُ منها مصممًا أساسًا لحملِ الرؤوسِ النوويَّةِ.. والأقمار الصناعيَّة كانت معظمهَا عبارةً عن «دبابيس» طائرةٍ مهمتها التنصُّت، والتَّصوير، وتيسير الملاحةِ، والاتِّصالات، والتَّصويب وكلُّ هذَا كانَ من أهمِّ مكوِّناتِ «الحرب الباردة».. واليومَ نجدُ مبدأ «وخر عن سمايا» حركة الأقمارِ الصناعيَّة التي يقدَّر عددهَا بأكثر من ستةِ آلافِ قمرٍ، لأنَّ معظمهم يسيرونَ في المداراتِ المنخفضةِ المفضلةِ للأنشطةِ العسكريَّةِ.. ومن جانبٍ آخر، كانتْ -ولا تزال- الحوكمة في الفضاءِ في حكمِ «الباي باي»، أي أنَّ القوانينَ والمعاهداتِ والاتفاقياتِ غيرُ كافيةٍ، وغيرُ لائقةٍ بحجمِ التحدِّي في بيئةِ الفضاءِ.

ونتيجةً لتلكَ الثغراتِ، نجدُ أنَّ بعضَ التجاوزاتِ هي أغربُ من الخيالِ.. قامت الولاياتُ المتحدةُ بتفجيرِ قنابلَ نوويَّةٍ فوقَ جنوبِ المحيطِ الأطلسيِّ عام 1958 في أكبرِ تجاربِ الفضاءِ الخارجيِّ، وتبعتهَا دولٌ وكياناتٌ أخرى ومنها ظاهرةُ «فيل لا» عام 1979 عندمَا فجَّرت إسرائيلُ وجنوب إفريقيا قنبلةً نوويَّةً في الفضاءِ فوقَ المحيطِ الأطلسيِّ.. ولكنَّ الصراعاتِ الفضائيَّة اليوم ليست على الهجومِ النوويِّ، ولا ضرب المدنِ من الفضاءِ، فهي حربٌ معنيةٌ بحمايةِ المصالحِ في «تضاريس» الفضاءِ.. والمقصود هنا المساراتُ، والمداراتُ، والوديانُ، والمواقعُ، والمرتفعاتُ الفضائيةُ المختلفةُ التي تستخدم من المركباتِ الفضائيَّةِ.. وسأترككُم بخاطرةٍ مقلقةٍ.. لو استخدمت خدماتِ التوصيلِ من أيِّ مطعمٍ اليوم؛ فتأكَّد أنَّ البيتزا أو الفولَ الذي سيصلُ إلى منزلكَ تيسَّرت منظومة توصيلهِ بمجموعةِ أقمارٍ صناعيَّةٍ.. وتحديدًا حوالى ثلاثين قمرًا ضمنَ نظامِ «الجي بي إس» الأمريكيِّ، وهي لا تخضعُ لأيِّ حمايةٍ من الأقمارِ الخبيثةِ حولها.. وتخيَّل أنَّ أنظمةً أُخْرى مشابهة من أوروبَا (جاليليو)، وروسيا (جلوناس)، والصين (بيدو) ستنافسهَا، وكل هذه «القماري» غير محميَّةٍ من الأذى البريء أو المتعمَّد.

* أمنيـة:

من المؤكَّد أنَّ الأقمارَ الصناعيَّةَ تستخدمُ اليومَ بكثرةٍ واعتماديَّةٍ عاليةٍ في السلمِ، ولكنَّها نشطةٌ جدًّا في الحربِ أيضًا ضد أبرياءِ غزَّة، وقد بدأ تاريخُها منذ فترةٍ في حربِ تحريرِ الكويتِ الشقيقةِ.. أتمنَّى أنْ يكتبَ اللهُ لنَا خيرهَا، ويكفينَا شرورَهَا، وهو من وراءِ القصدِ.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store