Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
فاتن محمد حسين

جودة الحياة.. رأس المال الرمضاني

A A
فُرض الصوم في السنة الثانية من الهجرة النبوية الشريفة، وذلك بعد أن استتب أمر الدعوة المحمدية، وأُرسيت العقيدة، ‏واستكانت النفوس لعظمة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.. وفُرضت الصلاة التي جاءت لتكون عماد الدين الإسلامي وسنامه، وقرة عين رسول الله، ولم توجد أي فريضة من الفرائض إلا لصحة الإنسان والمجتمع والأمة الإسلامية.

‏وأكثر ما يُميِّز فريضة الصوم، أنها لصحة الإنسان الجسدية والنفسية والاقتصادية.. ‏وكثيرون يعتقدون أن الصيام هو فقط الإمساك عن الطعام والشراب في وقتٍ مُحدَّد.. وقد يكون ذلك صحيحاً ظاهرياً.. ولكن الأصل في الصيام هو صحة الجسد، فحديث (صوموا تصحّوا) أثبتت الدراسات العلمية حقيقة هذا الإعجاز من الخالق العظيم، الذي صنع الإنسان ويعلم ما يُصلحه وما يُفسده؛ فكثرة الطعام والشراب تُورِّث تراكم الدهون، والتي لها مضار خطيرة على الجسد والنفس.. والتي قد تصل إلى حد البلادة.. واكتشف العلم الحديث أن الصيام يساعد على تحسين كفاءة الأجهزة الحيوية، وأهمها المعدة، حيث يُعالج الصيام قُرحة المعدة، واعتدال إفرازات الحموضة، والقولون، وكذلك أمراض الضغط والشرايين وغيرها.. بل يعالج مشكلات السمنة، وهو فرصة لإنقاص الوزن بدلاً من العمليات الجراحية، مثل التكميم وربط المعدة وغيرها.. وجميعها لها مضاعفات خطيرة على صحة الإنسان.

بل من الناحية النفسية يُربِّي الصوم عند الفرد قوة التحمُّل ومجاهدة النفس، فمن يملك شهواته، وانفعالاته، ورغباته الملحة في تناول القهوة والشاي والتدخين وغيرها، يسمو بها لأعلى درجات الضبط، وهذا هو سر الصوم؛ حيث إن قوة الإرادة تعمل على تثبيط الغرائز، وكبح جماح النفس وتربيتها بترك العادات السيئة، حتى مدمني المخدرات تنخفض لديهم نسبة تناولها، بل وفي دارسات متنوعة أثبتت أن نسبة الجريمة في البلاد الإسلامية تنخفض خلال شهر رمضان المبارك.

‏كما أن الصوم يُرقِّق القلب، ويُطهِّر النفس، ويُفترض أن يحملها على التسامح والعفو والسمو عن سفاسف الأمور، ‏فمهما حدث للإنسان من خصوماتٍ أو مشكلاتٍ أو سوء فهم مع الآخرين؛ فيُفترض أن يكون هذا الشهر الكريم فرصة للتقارب وإزالة ما علق من أحقاد في النفوس وتطهيرها من الغضب، الذي يُورِّث الشحناء ‏والبغضاء بين الناس، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (لا تغضب)، فالغضب جماع الشر، والتحرُّز منه جماع الخير؛ فهو يؤدي إلى عواقب وخيمة؛ ولكن للأسف، فإن كثيراً من الناس لا يملكون زمام أنفسهم، ويسترسلون في الغضب لأتفه الأسباب، حتى وإن كان ذلك بسبب رأي خاص، رغم ضرورة احترام الرأي الآخر.. وهذا ربما من قلة الوعي والإدراك الاجتماعي، مما يفترض أن تكون عليه العلاقات الاجتماعية.. والله سبحانه وتعالى يقول: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ..؟) فمن لا يستطع أن يعفو ويصفح، فكيف يريد أن يغفر الله له؟!، وهذا تعجُّب يأتي في سياق الآية الكريمة.. ويقول تبارك وتعالى: (فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه)ِ، فمَن مِنَّا لا يطمع أن يكون أجره على الله؟.

والشعور بالفقراء والمساكين والإحسان إليهم بالصدقة والزكاة من أهم سمات رمضان، ويدل على مدى التكاتف والترابط الاجتماعي، وربما هذه الميزة من أهم الميزات -والحمد لله- في مجتمعنا السعودي، ولكن ينبغي التوازن في التوزيع، والبعد عن العشوائية، وأن يكون ذلك عن طريق الجمعيات الخيرية المتخصصة، حتى لا يؤدي ذلك إلى تكدس الوجبات وكثرة النفايات.

وأما من الناحية الاقتصادية، فيُفترض تقنين الشراء، وأن يكون بالضروريات الأساسية وما يحتاجه الإنسان.. ولكن للأسف رأينا عربات مكدَّسة وممتلئة، وأكوام من المأكولات والمشروبات، ومن كل الأصناف.. ربما لا تستخدم أكثر من نصفها في رمضان، ومع ذلك تستهلك الراتب كله!.. فلا داعي أصلاً لكثرة الأصناف من الطعام والشراب، وتذوُّق هذا وذاك، مما يزيد الوزن، ولا يُحقِّق الصحة من الصيام، ناهيك عن بعض العادات السيئة، وهي تغيير أدوات المائدة من صحونٍ وكاسات وغيرها سنوياً في رمضان، بحجة الاحتفاء برمضان، وكذلك فنون التزيين الرمضانية والمواد الاستهلاكية التي لا تلبث أن تذهب إلى مكب النفايات. وأيضاً من العادات السيئة عند البعض -للأسف- سهر الليل ونوم النهار، وتضييع الصلوات المكتوبة.. وبذلك لا يتحقق هدف «صوموا تصحوا»، وهو مطلب إستراتيجي للجودة في شهر رمضان، ومن أسرار الصوم العظيمة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store