Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. سعود كاتب

عندما يتبدد رأس المال الأخلاقي للدول

A A
قبلَ عقدينِ تقريبًا، كتبتْ مجلة النيوزويك الأمريكيَّة على غلافِها بالخطِّ العريضِ سؤالًا يقولُ: هل أصبحتْ أمريكَا بلا أخلاقٍ؟ هذا السُّؤال أثارَ العديدَ من ردودِ الفعلِ في أمريكا، ليسَ على المستوَى الإعلاميِّ فحسبْ، بل على مستوَى الأبحاثِ والدراساتِ التي ظهرتْ بهدفِ تحليلِ المشكلةِ، ومعرفةِ أسبابِهَا وسبلِ علاجِهَا.

النيوزويك جاءتْ إثارتهَا لهذَا السُّؤال نتيجةً لعواملَ عديدةٍ منها: سلسلةُ الفضائحِ المتتاليةِ التي عصفتْ خلالَ تلكَ الفترةِ بشركاتٍ أمريكيَّةٍ ضخمةٍ، مثل «انرون»، و«آرثر أندرسون»، و«وورلدكوم»، و«تايكو»، و«دلفيا»، إضافةً إلى زيادةِ انتشارِ أشكالٍ مختلفةٍ من الجرائمِ في المجتمعِ الأمريكيِّ، مثل الرشوةِ والعنفِ والتحرُّشِ الجنسيِّ والمخدراتِ.

الولاياتُ المتَّحدةُ أخذتْ هذا الموضوعَ على محملِ الجدِّ، حيثُ لم تتوقَّف تلكَ البحوثُ والدراساتُ ومحاولاتُ العلاجِ حتَّى يومنَا هذَا، حتَّى أنَّ الرئيسَ الأمريكيَّ الأسبقَ جيمي كارتر أصدرَ كتابًا بعنوان «مبادئنا المندثرة: كارثة الأخلاق الأمريكيَّة»، ظهرتْ بعده عددٌ من المؤلَّفاتِ المماثلةِ التي تُحذِّر من أنَّ هذا الانحدارَ الأخلاقيَّ سيؤذنُ بزوالِ الولاياتِ المتحدةِ؛ ما لم يتم تداركهُ والتعاملُ معه بجديَّةٍ.

وبعد أحداثِ الحادي عشر من سبتمبر، أُثيرَ سؤالٌ آخرُ في أمريكَا هو «لماذَا يكرهونَنَا؟»، في محاولةٍ للإجابةِ عن أسبابِ انتشارِ موجةِ العداءِ للولاياتِ المتحدةِ في أنحاءٍ مختلفةٍ من العالمِ.

وبالرغمِ من أنَّ هناكَ ارتباطًا وثيقًا لا ينبغِي إغفاله بين السُّؤالين، إلَّا أنَّنا نجدُ أنَّ الولايات المتحدةَ تعاملتْ بنظرةٍ عرجاءَ مع السؤالِ الأوَّلِ، حيثُ تم التَّركيز على الوضعِ الأخلاقيِّ الداخليِّ المتهالكِ، بينما تم إغفالُ الوضعِ الأخلاقيِّ الخارجيِّ الأكثرِ تهالكًا. كما أنَّها من ناحيةِ أُخْرى تعاملت بغرورٍ وعدمِ واقعيَّةٍ مع السُّؤالِ الثَّاني، فبررت -ولا زالت- زيادةَ حالةِ العداءِ ضدَّها؛ بأنَّه نابعٌ من مجردِ الغيرةِ والحسدِ ومعاداةِ الحريةِ والديموقراطيَّة، وأسلوبِ الحياةِ الأمريكيِّ. وبطبيعةِ الحالِ فإنَّ المحصلةَ النهائيَّةَ لهذَا الإخفاقِ؛ يمكنُ رؤيتهَا بوضوحٍ في الوضعِ الحاليِّ بعدَ أكثر من عقدَين من الزَّمن، حيثُ تمرُّ أمريكا اليوم بمرحلة انحدارٍ غير مسبوقٍ لرصيدها من رأس المال الأخلاقي، وهو أمر لا ينبغي الاستهانة به وبنتائجه السلبية جداً عليها كقوة عظمى.. ولا شكَّ بأن كارثتي أوكرانيا وغزة نتج عنهما خسائر إضافية باهظة لذلك الرصيد، ستمتد آثارها لفترة زمنية طويلة مقبلة.

البعضُ يمكنُ أنْ يُردِّد هنا مقولة: إنَّ السياسةَ هي لغةُ المصالحِ المتبادلةِ، ولا علاقةَ لهَا بالأخلاقِ والمبادئِ والقيمِ، وهذه في الواقعِ مقولةٌ تفتقدُ كثيرًا من الدقَّةِ. حيثُ يمكنُ ببساطةٍ النظرَ لهذَا الأمرِ على ثلاثة مستوياتٍ مختلفةٍ ومتداخلةٍ، تبدأُ بالفردِ فالمنظَّمة ثم الدولةِ، فمهمَا كانتْ مصادرُ القوةِ التي يمتلكهَا الفردُ؛ فإنَّها ستكونُ قاصرةً حالَ افتقادهِ للقيمِ والأخلاقِ التي تُكسبهُ ثقةَ واحترامَ وقبولَ الآخرِين. وافتقاد قاعدةِ القيمِ والأخلاقِ كانَ قطعًا هو السببُ المباشرُ لانهيارِ منظَّماتٍ ضخمةٍ، مثل انرون وآرثر أندرسون وتايكو ودلفيا. وأخيرًا وبالمثل، فإنَّ الدولَ عندما يتآكلُ رأسمالهَا الأخلاقيُّ، فإنَّها تفقدُ سمعتهَا واحترامهَا، وتأثيرهَا السياسيَّ والاقتصاديَّ والثقافيَّ، إضافةً لفقدانهَا جاذبيتهَا التي تحفِّز الآخرين على دعمِ قراراتِها، والمشاركة في استثماراتِها، وتفضيلِها على سواهَا للزيارةِ والسياحةِ والتعليمِ.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store