هناك -بيني وبين نفسي- طيرٌ يغرِّدُ وحيدًا صوتهُ شاحبٌ وعيناه ذابلتان فوقَ شجرةِ الغيابِ -هكذا يسمُّونها؛ لأنَّ من يتسلَّقها طيرانَ يحطُّ حنينه وأسى ذكرياتِهِ مِنْ على أغصانِها الوارفةِ الظلالِ يقفُ فوقهَا يصدحُ شوقًا لأحبابهِ- يبصرُ هذَا الطَّائر إلى السَّماءِ مستغيثًا أنْ يرجعَ إليه مَنْ فقدَهُ، سحبه من بينِ جناحيهِ وهو نائمٌ، ومع كلِّ تغريدةٍ منه كأنَّه يقول: الصبرُ يارب، اللهمَّ صبِّرني!
هكذا نحنُ نَحَنُّ لمَن فارقُونا غيابًا، نفوسنا تأنُّ كالجِذِعِ الذي بكَى أنينًا، كطفلٍ حين فارقهُ نبينَا الكريمُ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في محرابِ مسجدهِ!
الصَّلاةُ، الرِّياضةُ، القراءةُ، مخاطبةُ الآخرِين أنْسًا هي انعاشٌ لتلكَ الأنَّةِ التي اسجنت داخلَ ضلوعنَا تأبى أنْ تخرجَ باكيةً تصرخُ: واحبيباه..
السكونُ في ملامحِ أولئكَ المتعبِين الحيارَى ما هي إلَّا ممالح تُحَطُّ على قطعٍ من اللَّحمِ بعد تمزيقهِ بسكينٍ لم تُحَد بعد كي يصلحَ للأكلِ!
مهمَا رأيتم صدِّقونِي شفاةً تبتسمُ تضحكُ، تقهقهُ تجد خلفهَا ألفَ قصَّةٍ وراءهَا، حكاية من فراقٍ!
هكذا نحنُ.. ما بين ابتسامةٍ ظاهرةٍ ووجعٍ تخبَّى خلفهَا، كما حرفي اختفَى خجلًا داخل سطرِهِ حين تقرؤون آخرَ جملةٍ أو سطرٍ أو حرفٍ ممَّا كتبتُ..
الدعاءُ أخيرًا هو شمعتُنا الأخيرةُ من مسلسلِ حياتِنَا المكبَّلةِ بأنفاسِ الوجعِ والأنينِ واستجرارِ الذكرياتِ اليائسةِ كالأوراقِ المتساقطةِ من شجرةِ الخوفِ التي تظلِّلها الغمامُ ونسائمُ أضلاعٍ مهشَّمةٍ نفسيًّا إلَّا من أملٍ يلوحُ في الأفقِ، هناك ربٌ اسمهُ الرَّحمنُ الرَّحيمُ سبحانَهُ وتعالَى.
فالنفوسُ -يا سادة يا كرام- بينَ طريقَين لا ثالثَ لهمَا، طريقُ الخيرِ وبه كلُّ الصعابِ وفي نهايتهِ النجاةُ، وطريقُ الشرِّ -والعياذ بالله- طريقٌ معبَّدٌ وسهلٌ وآخرتهُ الهلاكُ..
كتبه: عابرُ سبيلٍ حملَ فاصلتهُ فوقَ استفهامِ سطرِه اسمهُ علي، وأبوه حسين، الذي فقدَهُ قبلَ شهرَين.
وأخيرًا..
أفتقدُ حنانَكَ يا قلبَ سطرِي
يا عطرَ كلماتِي
يا نفثَ حرفِي
مَن أُناجِي الآنَ غيرَ ربِّي؟
وبعضَ فواصِلي، وأنَّات متْنِي
كلُّ الهوامشِ لا تعنينِي! حتَّى تعجبِي
باتَ لحد همِّي
يا كلَّ استفهاماتِ مجلَّدي يا فراغات
كُتُبِي
ليتنِي بينَ يديك منطرحًا أذرفُ الآهةَ
تلو دمْعي
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
