Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
طارق علي فدعق

خيبـــــــــــــة

A A
عنوان المقال يعني الفشل، وباللغة العامية يزيد عن ذلك قليلاً، فهي صفة مقرونة «بالبلادة»، وكأن هناك عوائق حسية تمنع النجاح.. وننسب الخيبة عادةً للأفراد، ولذا فعندما تُطلَق على جهات أو مؤسسات كبيرة، فهي تسترعي الانتباه.. وعندما تكون تلك الجهات هي ضمن قمة التقنية والذكاء والوجاهة العلمية، فالموضوع يحتاج وقفات تأمل.. وسأعرض ملخص قصتين عن قمة الخيبة في قطاعي فضاء يعتبران في القمة عالمياً: الأولى من قطاع الفضاء الأمريكي، وتبدأ في عام 1945 بنهاية الحرب العالمية الثانية.. بالرغم من هزيمتها في الحرب، كانت ألمانيا تتربع على قمة تقنيات الصواريخ، وكانت الولايات المتحدة في سباق مع الاتحاد السوفيتي للحصول على أفضل العلماء، والتقنيات الألمانية، لتصميم وصناعة وإدارة الصواريخ.. ولتحقيق ذلك، أرسلت أفضل المتخصصين في قواتها المسلحة لاستجواب علماء الصواريخ الألمان، والاطلاع على الوثائق والمعدات والمصانع. ومن ضمن فريق المتخصصين كان العالم الأمريكي الصيني الأصل «سوشن سين»، الذي كان من خريجي معهد ماساتشوستس للتقنيةMIT الأمريكي المرموق عالمياً في مجال الطيران والفضاء.. وحصل هذا العالم على استثناء من وزارة الدفاع الأمريكية للاطلاع على أعلى مستويات السرية، كم أنه حصل على أعلى درجات الثقة، فمُنِحَ مرتبة «مقدم» في القوات الجوية الامريكية. وفوجئ العالم بأن «سين» عام 1950 تم اتهامه بالجاسوسية وبتسريب معلومات سرية حساسة للصين، وخضع للاستجوابات الشديدة، ثم للمحاكمة، والإهانة ثم الطرد من الولايات المتحدة.. الرجل سافر إلى الصين مكسوراً، وأسس أفضل الإبداعات في قطاع الفضاء الصيني.. وإلى اليوم يعتبر الأب لذلك القطاع، وهناك متحف فضاء في الصين باسمه.. وإلى اليوم يعترف كبار مسؤولي قطاع الفضاء الأمريكي أن تلك الإجراءات كانت من أكبر مكوّنات الخيبة في تاريخ الفضاء الأمريكي.

وقصة الخيبة الكبرى الثانية تأتينا من الاتحاد السوفيتي في مطلع الخمسينيات، حيث سطع نجم العالم الروسي «سيرجي كورولييف».. هذا الرجل كان سابقاً لزمانه في تصميم المركبات الفضائية، واستطاع أن يُحقِّق أفضل الإنجازات المبكرة التي لا تزال آثارها باقية حتى اليوم.. وللعلم، كان الاتحاد السوفيتي في الريادة في إرسال أول مركبة فضائية عام 1957، وأول هبوط لمركبة على سطح القمر عام 1959، وإرسال أول كائنات حية عام 1957، وإرسال أول رجل فضاء 1961، وأول رحلة لرجلي فضاء 1962، ولرائدة فضاء 1963، ولأول سير في الفضاء 1965.. وكان «كورولييف» خلف معظم هذه الإنجازات بشكلٍ أو بآخر. وبالرغم من كل هذا، كان «جزاء المعروف سبعة كفوف» كما يقول المثل التاريخي الجميل.. اتهمت السلطات السوفيتية الرجل بخيانة الحزب الشيوعي، وكانت تعادل خيانة الوطن آنذاك، ثم تم سجنه لمدة حوالى ست سنوات، تعرض خلالها للإهانة والتعذيب.. وتمت إزالة صوره وسيرته من جميع الوثائق الرسمية.. وبعد مرور فترة من الزمن، عفوا عنه، وأعادوه إلى ذاكرة قطاع الفضاء.. «يعني يعني» أن «الذي فات مات» و»خلي روحك رياضية»، وما شابهها من الخرابيط المقرونة بالبلادة.

* أمنيـــــــــة:

الخيبة موجودة في كل مكان حول العالم بأشكالها وألوانها المختلفة، ومفاجآتها لا تنتهي، وخصوصاً عندما تصدر عن مؤسسات أو كيانات، كما نشهد في الحرب على أبرياء غزة اليوم، علماً بأن الجهات المسؤولة عن تلك التجاوزات لا تعتبر من الكيانات الذكية، كما هو الحال في أمثلة وكالات الفضاء أعلاه.. أتمنى أن يُسجِّل التاريخ التجاوزات الإنسانية بدقة شاملة، وبالذات في ما يتعلق بالخيبة التي ستُعيق السلام مستقبلاً، والله يلطف بالجميع.. وهو من وراء القصد.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store