Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. أيمن بدر كريّم

في معاني التخلِّي والاستغناء

A A
- إنَّها مَرحلةٌ مُضطربةٌ، تلكَ التي يُحاولُ المرءُ فيهَا التخلِّيَ عن كثيرٍ من قَناعاتِه ومَفاهيمِهِ؛ وسُلوكيَّاتهِ التّقليديَّةِ العَتيقة، وفي الوقتِ ذاتِهِ، يتبنَّى الجديدَ منها مُفتقدًا السَّلامَ والانسِجامَ، وكأنَّه يتعلَّمُ المَشيَ مِن جَديدٍ.. إنَّها مَرحلةٌ عَسيرةٌ، لكنَّها ضَروريَّةٌ.

- تعلُّم فنونِ التخلِّي والتَّركِ، وعدمُُ التعلُّقِ بالخلْقِ، مِن أساساتِ الحِفاظِ على الكينونةِ وضبطِ المَشاعرِ والتحكُّمِ في الرَّغبَاتِ. إنَّ الأشياءَ ليستْ ضروريَّةً للشُّعورِ بالتكامُل الذَّاتي والطُّمأنينةِ النَّفسيَّةِ.. فقْدُ الأشياءِ لا يَعنِي فقدَكَ ذاتكَ.

- التخلِّي.. ليسَ مُجرَّدَ تنظيرٍ، لكنَّه أسلوبُ حياةٍ مُتكامِلةٍ.. فالتخلِّي أمرٌ حاصلٌ لا مَحالةَ.. وواقعٌ مُتواصلٌ مُتكررٌ لأشياءَ وأُناسٍ وأفكارٍ ومُمتلكاتٍ.. والتخلِّي بصورةٍ تلقائيَّةٍ ومُباشرةٍ ودونَ مُمانعةٍ، أفضلُ كثيرًا مِن التعلُّق والمُكابَرةِ.. التخلِّي، بدايةُ الطُّمأنينةِ والتَّحلِّي.

- يحتاجُ الإنسانُ أنْ يُجرِّبَ حُبَّ العَطاءِ، لا حُبَّ التملُّكِ.. حُبَّ التخلِّي، لا حُبَّ الاستحواذِ.. تركَ التعلُّقِ وتجربةَ الاستغناءِ، مرَّةً واحدةً في حياتِهِ على الأقلِّ قبلَ أنْ يَموتَ.. قبلَ أنْ تذهبَ حياتُهُ سدًى دونَ أنْ يتذوَّقَ ألذَّ ما فيهَا مِن مَشاعرَ، ويُدركَ أجملَ ما فيهَا من إنجازاتٍ.

- إنَّ الرِّزق بِمعناهُ الأوسَع، ليسَ المزيدَ والإضافةَ والاستحواذَ والكسْبَ، فحسْب.. بلْ أيضًا غيابُ الألمِ، ودفعُ الضَّررِ، والوِقايةُ مِن المَرضِ والعجْزِ، والقدرةُ على التخلِّي والتَّرْكِ، والتلذُّذُ بالزُّهدِ والاستغناءِ.

- ومع التقدُّمِ في العُمْرِ، وازديادِ النُّضجِ، وتوالِي الصَّدماتِ المَعرفيَّةِ والنَّفسيَّةِ وخيباتِ الأملِ والخُذلانِ، قد تشعرُ أحيانًا أنَّكَ تهيَّأتَ واستعددْتَ أكثرَ من اللَّازمِ لِمواجهةِ الحياةِ، وأنَّكَ على وشْكِ النُّضوبِ، وأنَّ الحياةَ أبسطُ مِن كلِّ تلكَ التَّعقيداتِ وتفسُّخِ العَلاقاتِ.. ثمَّ تزدادُ عندَكَ الرّغبةُ في الانزِواءِ والاختفاءِ، وحينَها، يَسهلُ عليكَ الاستِغناءُ.

- أمَّا مرحلةُ الاكتفاءِ النَّفسيِّ بالذَّاتِ ونوادِرِ الأصدقاءِ المُختارِينَ بِعنايةٍ، والانشغالِ بالقراءةِ والهِواياتِ وأعمالِ العِبادةِ والخيرِ، فهيَ مَرحلةٌ مُتقدِّمةٌ تتميَّز بكثيرٍ من الرِّضا والتأمُّل، وقدرٍ جيِّدٍ من التَّجاهلِ والتَّغافلِ والسَّعادةِ، وهذا لا يَعنِي التخلِّي عن المسؤوليَّاتِ الوَظيفيَّةِ والأخلاقيَّةِ، في حدودٍ منطقيَّةٍ ودونَ ضَررٍ.

- ثمَّ ماذَا؟!.. ماذَا بعدَ التخلِّي يا صَديقِي؟!.. مزيدٌ من التخلِّي بالطَّبعِ.. هلْ كُنتَ تظنُّ أنَّهُ حانَ وقتُ التَّحلِّي والتَّجلِّي!.. ليسَ بَعد.. ليسَ بَعد يَا صَديقِي الغِر.. فحالُنَا عليلٌ، ومشوارُنَا طويلٌ، وطريقُنَا وعِرٌ كليلٌ.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store