Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
طارق علي فدعق

300

A A
في المقالِ الماضِي ناقشتُ تطوَّرَ المقاتلةِ المصريَّةِ «حلوان 300» المتميِّزة؛ التِي توقَّفَ إنتاجُهَا بعدَ طيرانِهَا بنجاحٍ عام 1969.. واليوم سأُلقِي الضوءَ على المحرِّكِ الجبَّارِ الذِي تمَّ تطويرُهُ خصيصًا لتلكَ الطَّائرةِ، والتِي كانتْ قصَّتهُ في غايةِ الأهميَّةِ، وسأعودُ إلى موضوعِ المحرِّكِ المصريِّ بعد 198 كلمةً من هذهِ النقاطِ.. عندَ انتهاءِ الحربِ العالميَّةِ الثَّانيةِ تسابقَ الحلفاءُ من جانبٍ، والاتحادُ السوفيتيُّ من جانبٍ آخرَ للحصولِ على أفضلِ العقولِ الألمانيَّةِ.. وكانتْ ألمانيا متفوِّقةً عالميًّا في مجموعةِ مجالاتٍ، ومنهَا تصميمُ وتصنيعُ المحرِّكاتِ النفَّاثةِ، والصَّواريخِ، والبصرياتِ، والملاحةِ.. وتمَّ تهجيرُ مجموعاتٍ كبيرةٍ إلى الولاياتِ المتحدةِ في مجموعةِ عمليَّاتٍ سريَّةٍ أشهرُهَا عمليَّةُ «الدَّبوس»، للاستفادةِ من قطاعِ الصَّواريخِ، وتمَّ ترحيلُ جزءٍ منهُم إلى بريطانيا في عمليَّةِ «لسطي» للاستفادةِ من خبراتِهم.. وحصلَ الاتحادُ السوفيتيُّ على حصَّتهِ من غنائمِ الحربِ في عمليَّةِ «أزويو أفيا خيم»، فتمَّ توريدُ مصانعَ بأكملِهَا من ألمانيا إلى الأراضِي السوفيتيةِ.. وكانت العمليَّةُ السوفيتيَّةُ هائلةً، إذْ ضمَّت أكثرَ من ألفِي عالمٍ ومهندسٍ وفنِّيٍّ، وأكثرَ من أربعةِ آلافٍ من المرافقِينَ لهُم. وعلى رأسِ تلكَ القائمةِ للاتحادِ السوفيتيِّ كانَ العالِمُ النمساويُّ الفذُّ «فردناند براندر»؛ الذِي كانَ ضابطًا في القواتِ الألمانيَّةِ أثناءَ الحربِ، والذِي تألَّقَ في مجالَي الهندسةِ الميكانيكيَّةِ والكهربائيَّةِ. تمَّ لوي ذراعهِ بقوَّةٍ لتصميمِ بعضٍ من أفضلِ المحرِّكاتِ السوفيتيَّةِ، وتبلورتْ جهودُهُ في تصميمِ وتصنيعِ المحرِّك التوربينيِّ العملاقِ من طرازِ «كوزنوتوف إن كي 12»، وكانَ -ولا يزال- هُو الأقوَى في العالمِ بقوَّتهِ الجبارةِ التي تعادلُ قوَّةَ حوالى خمسين سيَّارةَ لاند كروزر.. علمًا بأنَّ طولَ المحرِّك كانَ يفوقُ طولَ سيَّارةِ الكامرِي.. وبعدمَا تركَ «برادنر» الاتحادَ السوفيتيَّ توجَّه إلى ألمانيا، وتقلَّب في مناصبَ مرموقةٍ أهمهَا رئاسةُ مجموعةِ «بي إم دبليو» لمحرِّكاتِ الطيرانِ. ومِن هنَا تمَّ التعاقدُ معهُ لتطويرِ المحرِّكِ النفاثِ المصريِّ الطموحِ. وللعلمِ نجحت مصرُ في التعاقدِ مع رائدِ تصميمِ وتصنيعِ الطائراتِ المتميِّزِ الألمانيِّ «ويلي مسرشميت» لتصنيعِ الطَّائرةِ الاعتراضيَّةِ المصريَّةِ من طراز «حلوان 300».. يعنِي أصبحَ لدى مصرَ أفضلُ علماءِ الطيرانِ في العالمِ. وكانت الطائرةُ المصريَّةُ النفَّاثةُ مجهَّزةً مبدئيًّا بمحرِّكِ بريطانيٍّ من طرازِ «رولز رويس».. وجاءَ قرارُ القيادةِ المصريَّةِ بالاستغناءِ عن ذلكَ المحرِّكِ البريطانيِّ وتصنيعِ البديلِ الأكثر قوَّة، والأكثر اعتماديَّة.. وبدأ دورُ فريقِ تصميمِ وتصنيعِ المحرِّك المتطوِّرِ.. ولابُدَّ من التذكيرِ هنَا أنَّ كلَّ هذهِ الأحداثَ كانتْ في نهايةِ الخمسينيَّاتِ الميلاديَّةِ.. في فترةٍ بدائيَّةٍ جدًّا في تاريخِ المحرِّكاتِ النفَّاثةِ والطَّيرانِ الأسرعِ من الصوتِ.. وواجهتْ هندسةُ المحرِّك العديدَ من التحدِّياتِ الهائلةِ، ومنهَا -على سبيلِ المثالِ- إدارةُ الحرارةِ المرتفعةِ جدًّا، علمًا بأنَّ في تلكَ الأيامِ لم تكنْ هناكَ معادنُ مقاومةٌ للحرارةِ المرتفعةِ جدًّا.. وكانت درجةُ الحرارةِ بداخلِ محرِّكِ الطائرةِ المصريَّةِ تصلُ إلى ما يفوقُ ألفَ درجةٍ مئويَّةٍ.. ما يعادلُ ضعفَ حرارةَ الفرنِ في منازلنَا.. وبتوفيقِ اللهِ نجحَ الفريقُ الدوليُّ المكوَّنُ من مصرَ، والنمسَا، وألمانيَا من تطويرِ المحرِّكِ الجبَّارِ من طرازِ «إي 300».. وبعدَ كلِّ هذهِ الإنجازاتِ، تمَّ إلغاءُ المشروعِ بسببِ إرهاقِ الميزانيَّةِ المصريَّةِ بسببِ حربِ 1967، وبسببِ المنافسةِ الشرسةِ من الاتحادِ السوفيتيِّ بطائراتِ الميج 21، وبسببِ تدخلِ الموسادِ الإسرائيليِّ لإيقافِ المشروعِ.

* أمنيــــــة:

لا شكَّ أنَّ هناك مجموعةَ دروسٍ مهمَّةٍ فيمَا ذُكِر أعلاهُ، فالواضحُ أنَّ قطاعَ التسليحِ العالميِّ لدى الدولِ العُظمى لا يتحمَّل النجاحَ في الدولِ الناميةِ، وهُو من أكبرِ المستفيدِينَ من حروبِ اليوم وكلِّ يومٍ، وما بعدَها من توترٍ.. أتمنَّى أنْ يقينَا اللهُ شرورَهَا، وهُو مِن وراءِ القَصدِ.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store