Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

رحمك الله يا أبا حمدان

رحمك الله يا أبا حمدان

A A
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ، وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}

إن هذه الدارَ الدنيا دارُ مصائبَ وشرور، ليس فيها لذَّة إلا وهي مشوبة بكَدَر؛ فما يُظنُّ في الدنيا أنه شراب فهو سراب، وعمارتها خراب، لا ينتظر الصحيحُ فيها إلا السَّقَم، والكبيرُ إلا الهَرَم، والموجودُ إلا العَدَم: من يعش يكبر، ومن يكبر يمت، وهذه الدنيا لا تبالي ما أتت.

لقد سبر الناس معادن الدنيا، واختبروا أخلاقها، فما وجدوها تستقر على نسق، ولا تدوم على عادة، ولا تسكن على حال من السراء، ولا تبقي على حال من الضراء:

ما بين غمضة عين وانتباهتها

يقلب الله من حال إلى حالِ

ولقد أحسن في وصفها من قال:

على ذا مضى الناسُ؛ اجتماعٌ وفرقةٌ

ومَيْتٌ ومولودٌ، وبِشْرٌ وأحزانُ

ومَن أحب أن تكون دنياه على غير هذا، فلقد أعجز في المطلب، وأبعد في النجعة:

طُبعتْ على كدرٍ وأنتَ تريدُها

صفوًا من الأقذاء والأكدارِ

ومكلِّف الأيامِ ضدَّ طباعها

متطلبٌ في الماء جذوة نارِ

وأعظِم بمصيبتنا، حيث نفقد أستاذنا المربي وشيخنا الوقور الأستاذ الشيخ مقبول بن علي العرابي رحمه الله رحمة واسعة.

لقد عرفناه صغارًا، -والصغار أصدق عرفانًا-، عرفناه بيده الحانية الرائمة، وابتسامته الوادعة الدائمة، ووجهه البشوش، حيث درسنا القرآن الكريم طيلة سنتين من سنوات المرحلة الابتدائية، في مدرسة الظفير الابتدائية، التي كان مديرًا لها في تلك السنين.

أحبه أبناؤه الطلاب محبة الهيبة المحفوفة بالطمأنينة، وكان إلى ذلك سندًا لطلابه، يعتمدون عليه بعد الله فيما أعوزهم، فيقف إلى جانبهم، ويساعدهم في كل ما يحتاجونه إليه.

وكان إمام مسجدنا الجامع الكبير بالظفير وخطيبَه، نصلي خلفه الصلوات كلها، -طيلة مراحل تعليمنا الثلاث، الابتدائية والمتوسطة والثانوية- ونختلف إليه بعد كل صلاة، ونلتمس من سمته الجميل ومداعبته اللطيفة.

حمل مسؤولية الإمامة، فقام بها أكمل قيام، حتى إنني لم ألحظ عنه تغيُّبًا عن فرض من الفرائض، إلا أن يكون في حج أو عمرة، وكان من عادته أن يتحلّق طلابَه حوله بعد صلاة الفجر، فيقرئهم الدَّورَ، ويدارسهم من كلام الباري تعالى بما فُتح في ذلك اليوم، وكان صبرُه الطويل، وحِلمه الكثير، فما رُئي يومًا وفي حاجبيه تقطيبةُ ضجر.

ولم يكن يخلو المسجد مما يكون في مساجد الناس عادةً: من الشكوى من طول الصلاة أو قصرها، أو تقديم الإقامة أو تأخيرها، فما يواجه ذلك إلا بصبر طويل، وابتسامة، ووجه بشوش.

وكان رجلَ سُنَّة، شديد التحري لها، فكان لا يفوّت أن يقرأ بالسور في مواضعها المسنونة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت عادته في فجر الجمعة أن يقرأ بالإنسان والسجدة، وفي الجمعة أن يقرأ بالأعلى والغاشية، ومن عادته الفزع الشديد إلى الصلاة في الخسوف والكسوف.

وكان من تحريه للسنة: أنه لا يخالف الهدي النبوي في الخطب، فيُجْمِل في الخطب فيحسن الإجمال، يختصره اختصارًا يغني عن الإطالة في مؤدَّاه، فتأتي خطبه شافيةً كافيةً وافيةً، لا يطرق من الموضوعات إلا ما يهذّب النفوس.

وكان قريبًا من الناس، مقبلًا عليهم بإحسانه، صارفًا عنهم أذاه، لا سيما مع جلسائه وطلابه، فربما أخبرهم بما كان من خاصة شؤونه، تقريبًا لهم، وتبسُّطًا في الكلام إليهم، فربما أخبرنا بما اشترى من السوق، أو بمن زار من أصدقائه، أو قضى من حاجاته وأعماله، يقاسم من حوله روحَه وشعورَه ووجدانَه.

وعندما تقاعد رحمه الله من التدريس والإمامة جاور الحرم مدة، وكان يتفرغ له في رمضان فراغًا كاملًا، فيملأ وقته بالصلاة فيه طيلة شهر رمضان.

لم يشهد عليه إلا بالخُلق العالي، والسمت الحسن، ولم يُعهد عليه إلا الوقار والحشمة، والبُعد عن سفاسف الأمور ونوازلها، وكان كثير الحياء، نزيه الديانة، عفيف الطوية، طاهر الإزار، يألَفُ ويُؤلَف، يُحبّ الناس ويحبونه، يشاطرهم أحزانهم، ويواسيهم في أتراحهم، ويشاركهم في أفراحهم.

وكان لأسرتنا من تقديره القدر الأوفى، والنصيب الأحظى، والخصاصة القربى، فكان أقرب ما يكون أخٌ، وأكرم ما يكون قريبٌ. فيعرف لنا من المنازل أعلاها، ومن معاني المحبة والتقدير أسماها. حريصًا على أحبابه، فما ينفكّ يواصلهم، ويزورهم ويستزيرهم، ويحرص على ألَّا يطول عهدٌ إلا وقد دعاهم إلى بيته، وأكرمهم على مائدته.

وكان منا له ما لنا منه، حبًّا وتقديرًا وإخلاصًا، فيفرح بذلك منا ويحفظه لنا.

دعاه مرةً أخي الشيخ إبراهيم إلى استراحته بمكة المكرمة، فأظهر الفرح بدعوته، وأكثر الشكر له، وأظهر حبَّه للتواصل والتحابِّ والتعاهد.

ثم التقيت به رحمه الله رفقة ابنه المهندس حمدان في زواج أخينا ابن عبدالوهاب الشاعر، وكان قد أقعده الكبر على كرسي متحرك في صحة جيدة، ثم اعتلَّ رحمه الله أوائل شهر رمضان المبارك، وكتب الله له أن يُقبض في أواخره، فكان دليلًا على حسن خاتمته، ومن حسن خاتمة المرء أن يتوفاه الله في زمان مخصوص أو مكان مخصوص على عمل مخصوص، وكان له من ذلك كله القَسم الأحظى؛ فجمع الله له بين بركة الزمان والمكان على عمل صالح... نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحدًا..

وإذا كان الناس هم شهداءَ الله في أرضه، فإنه ما مات حتى أجمع الناس على فضله، واحترام قدره، وعرفان منزلته.

تغمده الله بواسع رحمته، واحتفَّه بسابغ كرامته، وأحسن العزاء لذويه وأهل قرابتِه، فعزائي لأبنائه البررة الكرام: المهندس حمدان، والدكتور عبدالرحمن، والمهندس عبدالهادي، والدكتور علي، وبناته الفضليات، وجميع أقاربه ومحبيه وطلابه وبلدة الظفير خاصة والمنطقة عامة.

* رئيس محكمة استئناف بمنطقة مكة المكرمة

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store