Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. سهيلة زين العابدين حماد

إبعاد الفصحى لإفقادنا هويتنا.. وإبعادنا عن فهمنا القرآن

A A
إنَّ استخدامَ اللهجةِ العاميَّةِ المصريَّةِ في الأعمالِ الدراميَّةِ التاريخيَّةِ كالإمامِ الشافعيِّ والحشَّاشين؛ محاولةٌ لإحياءِ دعواتِ المستعمرِ الغربيِّ باستخدامِِ اللهجاتِ العاميَّةِ بدلَ الفصحَى، فمن أهدافهِ القضاءُ على اللغةِ العربيَّةِ حتَّى يضمنَ قطعَ الصِلَةِ بين المسلمِين وتراثِهم العربيِّ الإسلاميِّ، خاصَّةً كتابَ اللهِ، الذِي يريدُون أنْ يصبحَ كتابًا غيرَ مفهومٍ إذا هجرُوا الفصحَى، فقدْ اهتمَّ المستعمرُون بتدريسِ اللهجاتِ العربيَّةِ العاميَّةِ في مدارسِهم وجامعاتِهم، مستعينِين بالعربِ الذين كانُوا يعملُون في بلادِهم، ففي إيطاليا دُرِّست العربيَّة العاميَّة في مدرسةِ نابولي للدروسِ الشرقيَّةِ، وكذلكَ في النمسَا أُنشئتْ «مدرسة القناصلِ»، وفي غيرهمَا.

وكانَ من نتيجةِ ذلكَ ظهورُ كتبٍ كثيرةٍ في اللهجاتِ العاميَّةِ، منهَا ما ألَّفها أبناءُ العربيَّةِ بإيعازٍ من الغربِ ككتابِ: «أحسن النخبِ في معرفةِ لسانِ العربِ» لمحمد عياد الطنطاوي، وكذلكَ كتاب ميخائيل الصبَّاغ، «الرسالة التامَّة في كلامِ العامَّةِ والمناهجِ في أحوالِ الكلامِ الدارجِ»، ومنهَا ما قامُوا هم أنفسُهم بتأليفِها، وهي كثيرةٌ، اختصَّ كلٌّ منهَا بدراسةِ لهجةٍ من لهجاتِ الأقطارِ العربيَّةِ.

ويُعتبر كتابُ: «قواعد العربيَّةِ العاميَّةِ في مصرَ» للدكتور ولهلم سيبتا، الرائدَ الأولَ لكلِّ مَن كَتب في العاميَّةِ المصريَّةِ، فقدْ دعَا إلى اتخاذِ العاميَّةِ لغةً أدبيَّةً، ومن كتابهِ انبعثت الشكوَى من صعوبةِ العربيَّةِ الفصحَى. لذَا يعتبرُه الباحثُون أوَّل محاولةٍ لدراسةِ لهجةٍ من اللهجاتِ العربيَّةِ المحليَّةِ، فهذَا الاهتمامُ لم يكنْ من أجلِ البحثِ العلميِّ كمَا يزعمُون، وإنَّما من أجلِ القضاءِ على العربيَّةِ الفصحَى وإحلال العاميَّة محلَها.

وانتهجَ المستشرقُ الألمانيُّ كارل فولرس نهجَ «سيبتا» في كتابهِ: «اللهجة العربيَّة الحديثة في مصرَ»، للتقليلِ من شأنِ اللغةِ العربيَّةِ الفصحَى وأهميتهَا، هذَا بالإضافةِ إلى عشراتِ الكتبِ التي عملتْ على تغريبِ اللغةِ عن أهلِهَا.

والملاحظُ أنَّ أغلبَ الكتبِ التي ألَّفها الأوروبيُّون في العاميَّةِ المصريَّةِ، تتَّفق على الدعوةِ إلى اتِّخاذِ العاميَّةِ لغةَ الأدبِ، وعلى استبدالِ الحروفِ اللاتينيَّة بديلًا عن العربيَّةِ، وقد وصلتْ إلينَا هذهِ الدعواتُ مستترةً تحتَ ستارِ البحثِ العلميِّ لدراسةِ لهجةٍ محليَّةٍ عربيَّةٍ.

والسؤالُ: ما شأنُ الأوروبيِّين باللغةِ العربيَّةِ حتَّى يطالبُوا بتغييرِ حروفِها إلى اللاتينيَّة، واستبدال بالفصحَى، اللهجاتِ العاميَّة؟.

أينْ هم من اللغتَيْن الصينيَّة واليابانيَّة اللتين تتطلَّبان إتقانَ اللغةِ المكتوبةِ حفظَ العديدِ من الحروفِ، وكلّ حرفٍ في اللغةِ الصينيَّةِ يمثِّلُ مقطعًا لفظيًّا كاملًا مستقلًا، فيكون كلُّ حرفٍ ممثلًا لكلمةٍ واحدةٍ فقطْ أو جزءٍ منها. من هذَا المنطلقِ، لا ترتبطُ أشكالُ الحروفِ الصينيَّة المكتوبةِ بأيِّ نطقٍ حقيقيٍّ، بلْ هِي محضُ صورٍ ممثِّلةً لكلماتٍ لابُدَّ على متعلِّم اللغةِ من حفظهَا صورةً صورةً (عددها بالآلافِ).

فهل الفصحَى العربيَّة أكثرُ صعوبةً من اللغتَيْن الصينيَّة واليابانيَّة حتَّى يتركهمَا الغربيُّون ويصبُّون جلَّ اهتمامِهم على هدمِ الفصحَى العربيَّة والدعوةَ إلى تغييرها بالعاميَّة تحتَ ذريعةِ صعوبتهَا، مع إغراقِ العالمِ العربيِّ بالمدارسِ الأجنبيَّةِ التي تستبعدُ اللغةَ العربيَّةَ من مناهجِهَا بعدمَا فشلتْ دعواتُهم إلى العاميَّةِ ومؤلَّفاتِهم فيهَا؟.. وللإجابةِ عن هذَا السؤالِ أقولُ: لم ينزلْ قرآنًا باللغةِ الصينيَّةِ أو اليابانيَّةِ حتَّى يُحاربُوها محاربتهُم للعربيَّةِ الفصحَى.. ولم يُفرِّط الصينيُّون واليابانيُّون في لغتهِم الأمِّ التي توحِّدهم وتحافظُ على هويَّتهم وتحفظُ حضارتَهُم وتراثَهُم، ولمْ تكنْ الصينُ ولا اليابانُ مهدَ الأديانِ والرسالاتِ، وذات موقعٍ إستراتيجيٍّ فريدٍ، ومطمعًا للمستعمرِ الغربيِّ لمحاولةِ احتلالِها، ونهبِ خيراتِهَا.

إنَّ اللغة العربية الفصحى لغة القرآن الكريم وكانت لغة العلوم والآداب في جميع أنحاء العالم الإسلامي لقرون عديدة، ولو كانت بالصعوبة التي يتحدث عنها الأوروبيون لما انتشرت كل هذا الانتشار، ولما امتلأ العالم الإسلامي بحفظة القرآن الكريم على اختلاف أعمارهم ولغاتهم وثقافاتهم.

إنَّ الدعوة الأجنبية باتخاذ العامية أداة للتعبير الأدبي، هدفها محاربة الفصحى؛ لإبعاد المسلمين العرب عن القرآن الكريم وفهمه، وإفقادهم هويتهم، وقد عادت هذه الدعوة إلى الظهور بقوة في الآونة الأخيرة، من خلال بعض صناع الدراما العربية التاريخية، وأيدهم آخرون بمضاعفة الفجوة بين الفصحى وأبنائها، بعد غزو المدارس والجامعات الأجنبية للبلاد العربية، إلى أنْ أصبح الوضع ضعفا عاما للغة الفصحى بين أبناء وبنات هذا الجيل، الذِي امتدَّ إلى الإعلامِ في العالمِ العربيِّ، بجوانبهِ الثقافيَّةِ، والفنيَّةِ، والفكريَّةِ، تُغلِّفهُ الركاكةُ، والضعفُ، والجنوحُ نحوَ اللهجاتِ العاميَّةِ، مع استخدامِ كلماتٍ إنجليزيَّةٍ.

إنَّ القارئَ للصحفِ والمستمعَ إلى نشراتِ الأخبارِ، والمشاهدَ للقنواتِ العربيَّةِ الفضائيَّةِ يشعرُ بمدَى الضعفِ الذي تعانيهِ اللغةُ العربيَّةُ المستعملةُ فيها، إضافةً إلى فقدانِ بعضِ الشبابِ العربيِّ لهويَّتهم العربيَّةِ والإسلاميَّةِ، فالعولمةُ استطاعتْ أنْ تجذبهم إلى الآخرِ إلى درجةِ الذوبانِ، حتَّى باتُوا يخلطُون لغتَهم الأمَّ بالإنجليزيَّةِ، كلُّ هذَا يعطينَا مؤشرًا خطيرًا؛ لذا كانَ من أهمِّ أهدافِ وبرامجِ رؤيةِ المملكةِ 2030 تعزيزُ القيمِ الإسلاميَّةِ والهويَّةِ الوطنيَّةِ. وباعتبارهَا مهدَ اللغةِ العربيَّةِ، ونزلَ في أراضِيهَا القرآنُ الكريمُ أقترحُ أنْ تتولَّى المملكةُ إعدادَ مشروعٍ للنهوضِ باللغةِ العربيَّةِ في العالمِ العربيِّ وتقدِّمه لوزاراتِ التعليمِ في البلدانِ العربيَّةِ، ووسائلِ الإعلامِ العربيَّةِ المختلفةِ لننهضَ بواقعِ اللغةِ العربيَّةِ إلى الدرجةِ التي نطمحُ إليهَا.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store