Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. سعود كاتب

اللاعب الموهوب.. واللاعب المصنوع

A A
خلالَ إحدَى محاضراتِي عن الدبلوماسيَّةِ العامَّةِ سألنِي أحدُ الطُّلابِ: هلْ يمكنُ للدولِ التِي لا تمتلكُ مصادرَ قوَّةٍ ناعمةٍ طبيعيَّةٍ أنْ تقومَ بصناعةِ تلكَ القوَّةِ بشكلٍ أو آخرَ؟ وهلْ -لوْ أمكنَ ذلكَ- ستمتلكُ تلكَ القوَّة «المصنوعة» القدرةَ نفسهَا على التأثيرِ والجاذبيَّةِ؟.

أوَّل أمرٍ خطرَ على بالِي عندَ إجابتِي عن هذَا السؤالِ المهمِّ والشَّائقِ هُو: الفرقُ بينَ اللاعبِ «الموهوبِ» واللاعبِ «المصنوعِ» في كرةِ القدمِ، فالأوَّلُ تظهرُ عليهِ منذُ طفولتهِ علاماتُ الإبداعِ والمهارةِ بشكلٍ يمكنُ معهُ القول بأنَّه مولودٌ بتلكَ القدرةِ والبراعةِ، في حينِ أنَّ اللاعبَ المصنوعَ هُو لاعبٌ مثابرٌ ومنضبطٌ تمَّ تعهدُهُ بالعنايةِ والتدريبِ المتخصصِ المكثَّفِ، حتَّى أصبحَ لاعبًا مميَّزًا يمكنُ الاعتمادُ عليهِ.

ولكنْ، علينَا هنَا التوقُّف قليلًا، فمجرَّد امتلاكِ اللاعبِ مهارةً فطريَّةً ليسَ كافيًا بدونِ تدريبٍ محترفٍ وانضباطٍ شخصيٍِّ، ومن ناحيةِ أُخْرى فإنَّ من غيرِ الممكنِ صناعةُ لاعبٍ وتحويلهُ إلى نجمٍ دونَ أنْ يكونَ لديه حدٌّ كافٍ من المهاراتِ والقدراتِ البدنيَّةِ، كالسُّرعةِ والقوَّةِ والشَّغفِ والتحمُّلِ.

ومن أكثرِ النماذجِ التي يتمُّ ذكرهَا بهذَا الصددِ كلٌّ من ميسي وكريستيانو رونالدو، حيثُ يمتازُ ميسي بموهبةٍ فطريَّةٍ أكبر، بينمَا يتفوَّقُ كريستيانو بمزايَا بدنيَّةٍ ساهمَ في بنائِهَا انضباطُه وشغفُه واتباعُه لنظامٍ تدريبيٍّ وغذائيٍّ صارمٍ.. وتفوُّق أحدهمَا في جانبٍ لا يعنِي بأيِّ حالٍ افتقارهُ للجانبِ الآخرَ.

وبالعودةِ لموضوعِ القوَّةِ الناعمةِ، فإنَّه يمكنُ بالمثلِ القولُ: إنَّ هناكَ مصادرَ قوَّةٍ ناعمةٍ أصليةٍ مثل الآثارِ، التنوُّعِ البيئيِّ، السِّماتِ البشريَّةِ، التنوُّعِ الثقافيِّ، المقوِّماتِ السياحيَّةِ، التاريخِ والعراقةِ، وغيرها، وهناكَ أيضًا مصادرُ قوَّةٍ ناعمةٍ «مصنوعةٌ» مثل الإنجازاتِ والتفوُّقِ الفنيِّ والرياضيِّ والعلميِّ، المبادراتِ والقيمِ الإنسانيَّةِ والسياسيَّةِ، وغيرها.

وامتلاكُ دولةٍ لمصادرَ قوَّةٍ ناعمةٍ أصليةٍ لا يعنِي بأيِّ حالٍ عدم سعيهَا لبناءِ وصناعةِ مصادرَ أُخْرَى إضافيَّة من قبيلِ الدرامَا والموسيقَى في كوريَا الجنوبيَّة، «البريمير ليغ» في المملكةِ المتحدةِ، التميُّزِ التعليميِّ والمبادراتِ والقيمِ الإنسانيَّةِ والسياسيَّةِ في الدولِ الاسكندنافيَّةِ، كرةِ القدمِ في البرازيلِ، وغيرها.

وبالنسبةِ لسؤالِ أيُّهمَا أكثرُ تأثيرًا وجاذبيَّةً، القوةُ الناعمةُ الأصليةُ، أم القوةُ الناعمةُ المصنوعةُ؟ فإنَّ الإجابةَ عنه لا تقلُّ صعوبةً عن سؤالِ أيُّهمَا أفضلُ كريستيانو أم ميسي؟، فكلُّ لاعبٍ منهمَا لهُ مزاياهُ الخاصَّة وأسلوبهُ المختلفُ، وكمْ سيكونُ رائعًا لو أنَّ هناكَ لاعبًا خارقًا يجمعُ بينَ مزاياهمَا.

وفي رأيي الشخصي، فإن أولويةَ الدول ينبغي أن تكون للقوة الناعمة الأصلية، باعتبارها أكثر عمقاً واستدامةً، وأكثر تمثيلاً لملامح البلد وخصائصه، ثم الاتجاه بعد ذلك حسب الحاجة والظروف لصناعة مصادر أخرى، ينتج عنها مزيج نهائي يتسم بالتكامل والتناغم ويحقق الأهداف المرسومة.

أمَّا في حالِ الدولِ الأقلِّ حظًّا، والتِي ليسَ لديها مصادرُ قوَّةٍ ناعمةٍ أصليةٍ كافية، فالخيارُ الوحيدُ أمامهَا هو محاولةُ صناعةِ قوَّةٍ ناعمةٍ رياضيَّةٍ، أو ثقافيَّةٍ، أو فنيَّةٍ، أو سياسيَّةٍ، وهي -دونَ شكٍّ- ستحقِّقُ لهَا قدرًا من الجاذبيَّةِ والتأثيرِ، يتفاوتُ وفقًا للإمكاناتِ ومهارةِ وجودةِ التخطيطِ والتنفيذِ.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store