Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

النُقّاد الجُدُّد

النُقّاد الجُدُّد

A A
إن الحديث عن النَّقْد يقودنا بالضرورة إلى الحديث عن الكتابة، إذ أن علاقة النَّقْد بالكتابة علاقة تلازمية، بمعني أن كلاهما وجهان لعملة واحدة، برغم الجدل البيزنطي الذي يثور بين فينة وأخرى بين أنصار الفريقين، حيث أن بعض الكُتّاب يقللون من أهمية النَّقْد الأدبي ومضامينه، وفي المقابل يدافع النُقّاد عن مهنتهم، ويؤكدون على أهمية دورها الثقافي، والتي استطاعوا من خلال طرائق وأساليب النَّقْد المتعددة، تعديل الكثير من المسارات الكتابية، وبالتالي إثراء الساحة الأدبية.

ولو تجاوزنا السؤال الجدلي الذي يدور بين أروقة الفريقين عن أيهما أفاد الآخر؟ فإن الكتابة تظل -في تقديري الخاص- مُتَنَفِّسٌ وتعبير حقيقي عما يدور في أعماق النفس البشرية بصرف النظر عن تباين وتفاوت ذلك التعبير من حيث الوضوح والغموض، أو البساطة والتعقيد، ويظل النَّقْد أو يجب أن يظل مجرد انعكاس ذوقي للممارسة الكتابية، لا عملية محاسبة أو مقاضاة لها.

وإذا كانت المدارس النَّقْدية قد وضعت معايير ومواصفات للشروط التي يجب توافرها في الناقد؛ كالتمكن من الأدوات اللغوية المختلفة، والثقافة الواسعة، والذكاء الشخصي المتقد، إلاّ أن الحقيقة التي يجب أن لا تغيب عن أذهان النُقّاد؛ هي أن المعالجة النَّقْدية مهما بلغت درجاتها الموضوعية، إلاّ أنها تظل تراوح في المجال الذاتي المحض القائم على اعتبارات ذوقية خالصة، كما قال بذلك ستانلي هايمن في كتابه المدارس الأدبية الحديثة.

هذه الحقيقة التي تسيطر على كل ناقد حقيقياً كان أم مزيف! لا تظهر عادة على السطح؛ لأنها متوارية في أعماق العقل الباطن، تعززها الفكرة الرائعة عند أصحاب المدرسة السلوكية الذين اختصروا القضية في هذه العبارة الرائعة: "الأدب ليس ألا رجلاً يكتب، ورجلاً يقرأ، ولاشيء غير ذلك".

ولو جاز لنا تحريف هذه العبارة على هذا النحو: "إن الأدب ليس إلا رجلاً يكتب، ورجلاً يتذوق ما يقرأه، ويتجاوز مالا يناسب ذائقته" فلربما استطعنا تجاوز الكثير من الإشكالات، وأرحنا أنفسنا من قضية التعذيب النفسي الذي أُبتلي به الكثير من النُقّاد والقرّاء على حدٍ سواء.

ولهذا الاعتبار ارتكز النَّقْد الأدبي على مبدأين في غاية الأهمية؛ أولهما أن الأدب نوع من التعليم الأخلاقي، والثاني أن الأدب في أساسه نوع من اللذة والمتعة كما أشار ستانلي هايمن.

ولنبدأ الحديث عن المبدأ الثاني المتعلق باللذة والمتعة الأدبية؛ حيث أنهما مربط الفرس كما يقول التعبير العربي، أو السطر الأخير كما يقول التعبير الإنجليزي.

فاللذة والمتعة في عالم الأدب تكاد تكون مفقودة لدى الكثير من كُتّاب هذه الأيام! وخاصة عند أولئك المحسوبين على تيار الحداثة؛ وذلك بسبب الرموز، والألغاز، والأحاجي التي أضحت منهجهم وطريقتهم في العملية الكتابية، الأمر الذي أفسدوا معه الذائقة الأدبية؛ بسبب الحشو الفارغ الذي يكتبونه! وعلى الضفة الأخرى ظهرت شريحة جديدة من "النُقّاد الجُدُّد" راحت تصدر مذكرات تفسيرية وتحليلية لذلك الفراغ المكتوب! وتفرضه على ذائقة القارئ حتى توهم أولئك الكُتّاب؛ أن منهجهم وخطهم الكتابي الغامض له قبول ورواج في المشهد الثقافي، وصدّق في الجانب الآخر "النُقّاد الجُدُّد" بأنهم قد جاءوا بما لم تأت به الأوائل.

والحقيقة لا أدري من أين جاء ذلك الوهم الذي عَشَّشَ -لا أجد حقيقة تعبير آخرـ في أذهان أولئك الكُتّاب من أن النص الأدبي سواءً كان شعرياً، أو روائياً، أو غيرهما من النصوص الأدبية يجب أن يكون مُبهماً أو غامضاً حتى يكون ذو دلالة، أو قيمة أدبية، أو أنه لابد من أن يغوص القارئ في أعماق ذلك النص؛لاستخراج المعاني المدفونة فيه إذا كان هناك بالفعل معاني؟

ولا أجد تفسيراً في ذات الوقت للإصرار العجيب من "النُقّاد الجُدُّد" على فرض هذه الخزعبلات التي لا يفهمها حتى أصحابها على أنها منهج جديد، وفتح مبين في المسار الأدبي وفي تاريخ الأدب؟

ولذلك أقول وأرجو أن لا يتجاوز قولي هذا حدود الموضوعية، بأن أي محاولة لفرض تلك النوعية من الكتابات الضبابية من أولئك الكُتّاب، ومن ثم تسويقها من قبل "النُقّاد الجُدُّد" لا تعدو عن كونها عملية إفساد للفكر من جانب، ولذائقة القارئ من جانب آخر، فضلاً عن كونها نوع من التلذذ بالتعذيب! على طريقة حزب "الماسوشية" الذين يتلذذون بتعذيب أنفسهم وتعذيب الآخرين!

إذ أن القراءة عبارة عن عملية تشويقية إمتاعية، وليست عملية تعذيبية! بمعنى آخر يجب أن تكون القراءة أحد أشكال السعادة الخالصة، كما قال الكاتب الأرجنتيني خورخي بورخيس.

فأنا عندما اقرأ يجب أن اقرأ للمتعة الذهنية والروحية وليس للتعذيب الذهني والنفسي كما يفعل بعض كُتّاب الحداثة وأتباعهم الشُرّاح.

وبالعودة إلى المبدأ الأول من مبادئ المدارس الأدبية التي أشرنا إليها سابقاً، وهو الجانب الأخلاقي في الأدب، أقول برغم إيماني التام بأهمية النَّقْد ومدارسه، وبتعدد أدواته المختلفة إلاّ أنني أرفض تماماً، أساليب شريحة أرباع المثقفين من "النُقّاد الجُدُّد" الذين يدّعون الأستاذية على الكثير من القراء سواءً في العالم الحقيقي أو في العالم الافتراضي، وذلك من خلال فرد عضلاتهم الثقافية بطرق مكشوفة غالباً، وسَمِجة في أغلب الأحوال، وزادهم المعرفي على الأرجح، لا يتجاوز بِضع كلمات، وقراءة بِضعة كتب، وهم في هذه الحالة كمن يتعلم الحلاقة في رؤوس المساكين كما يقول المثل العامي.

وليت شعري! لو أن ذلك الاستعراض النَّقْدي، يتم في أجواء ملؤها الود والمحبة والتقدير لربما هان الأمر، ولكنه بجانب افتقاره إلى أبسط أدوات النَّقْد، يخلو للأسف من أبسط مقومات الذوق العام الأمر الذي ينطبق عليه المثل العربي حشفاً وسوء كيل.

فإذا كانت المدارس النَّقْدية أكّدت على أن النَّقْد يجب أن يقوم من الناحية المنهجية على أساسات متينة، وقواعد صلبة، وينطلق من منطلقات سليمة، إلا أن الركن الأصيل أو حجر الزاوية في هذا العمل هو الناحية الأخلاقية، المتمثلة في التعامل الإنساني الراقي، والمتحضر مع كل طرح بعيداً عن الشّخصنة، والندية التي تطفح بها بعض مداخلات "النُقّاد الجُدُّد" الأمر الذي يجعلها تنحرف عن رسالة النَّقْد السامية التي تبحث عن الموضوعية، والارتقاء بالنص الأدبي إلى آفاق أرحب وأجمل، وذلك من خلال غربلته، وتصويب اخطائه، وإقامة المُعْوَجّ منه دون المساس بشخص الكاتب أو الإشارة إليه بالانتقاص أو التجريح.

وأما فيما يتعلق بمعيار الثقافة لدى النُقّاد، فإن المدارس الأدبية، تكاد تجمع على أنه يجب أن تكون ثقافة الناقد في مستوى أعلى من ثقافة الكاتب نفسه، أو مساوية له على أقل تقدير، إذ أنه مسؤول وشريك في الارتقاء بالذائقة الحسية والجمالية لدى القراء، وهذا ما كان موجوداً في الأزمنة الغابرة، إذ كان النَّقْد وقفاً على المشاركين في العمل الإبداعي ذاته؛ فقد كان الفيلسوف هو من ينقد فيلسوفاً آخر، كما كان يفعل بلاتو مع سقراط، والأديب هو من يكتب نقداً لعمل أديب آخر كما يفعل مارلو مع شكسبير.

والناقد المثقف هو من يمتلك القدرة على التفريق بين النّص الجيد، والنّص الرديء. بين الزائف والأصيل، بما يمتلك من أدوات، مما يجعل ثقافة الناقد تحت المجهر، فإن كان قليل الثقافة، أو لا يمتلك علماً أو درايةً بالموضوع، فإن ذلك يرتد على النص بالسلب حيث يظلمه، وينتقص من حقه، ويقلل من قدره، بعكس ما إذا كان الناقد مثقفاً وواسع الإطلاع إيجابي المقصد، حيث ينعكس على النص بالإيجاب، فيسبغ عليه بعداً جمالياً آخر، فيخرج من روح النص نصاً جديداً لا يقل عن النص الأصلي جمالاً وروعة، بالإضافة إلى المساهمة في صقل موهبة الكاتب، وتطوير أدواته الكتابية.

ومن هنا نستطيع تصنيف النُقّاد بشكل عام إلى ثلاثة فئات:

1ـ ناقد إيجابي يتَحَلَّى بالثقافة والإنصاف والحيادية.

2ـ ناقد سلبي يتَّسَمَ بالتطرف والتحيز لفكر معين أوفئة محددة.

3ـ ناقد مستهتر ميّال لشّخصنة نقده يلقي بالأحكام والتعليقات جزافاً واعتباطاً.

وأخيراً! ونحن إذ نطالب الأديب بتوخي الكمال فيما يكتب، فكذلك يحسن بنا أن نطالب الناقد بأن يكون أكثر حرصاً على ذلك الكمال فيما يتناوله من نقد؛ وذلك بانتهاج الموضوعية والحيادية، والابتعاد عن التحيزات بجميع أنواعها وأشكالها، وأن يبتعد -وهذا الأهم- عن فرض الوصاية على الآخرين بحجة النَّقْد، والابتعاد أيضا عن إلصاق النقائص والمعايب بالآخرين؛ فيما يعرف في علم النفس بنظرية "الإسقاط النفسي" إذ أنه لا ينقصنا مزيد من الفُرقة والتَشرذُم؛ لاسيما والموضوع يختص بالشأن الأدبي والثقافي.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store