أطفال ولكن بالغون

قلت مرارا بأن الشاعر العظيم ليس من يوجد المفردات من العدم ، وإنما هو من يمنح المفردات الشائعة دلالات جديدة لم يسبق لبشر أن توصل إليها .
الشعر محاولة لترويض اللغة وتهيئتها للتعبير عن عالم الوجدان ، وهنا تكمن صعوبة وفرادة الشعر وجماله أيضا .. فاللغة منتج عقلي في الأساس ، وهذا ما يجعل من تطويعها للقيام بمهمة التعبير عن المشاعر عملا محفوفا بالمخاطر .. إنها مغامرة يخوضها المبدع دون أن يتخذ قرارا مسبقا .
في الشعر تكتسب المغامرة قيمتها وأهميتها ليس فقط من قدرة الشاعر على اكتشاف دلالات جديدة للمفردات الشائعة ، وإنما من قدرته أيضا على إضافة المفردة المناسبة التي يمكن أن تمنح العبارة دلالة لم يفكر فيها أو يستشعرها أحد من قبل .
في أحد مقاطع قصيدة ( عيناك ) يقول نزار قباني : (( هل أرحل عنك وقصتنا أحلى من عودة نيسان )) . وهذه صورة غيرمسبوقة وتحتاج إلى وقفة طويلة لاستكشاف جمالياتها . لو اكتفى نزار بالقول : أحلى من نيسان ( نيسان هو أول شهور فصل الربيع ) ، لكانت الصورة الشعرية جميلة .. اما وقد أضاف هذا العبقري مفردة (( عودة )) لتسبق كلمة (( نيسان )) ، فقد أصبحت الصورة مدهشة وليست جميلة وحسب .
عبارة ( عودة نيسان ) لا تعني حلول فصل الربيع فقط ، ولكنها تعني حلول الربيع بعد انتظار طويل .. والانتظار الطويل أيا كانت طبيعة أو كنه هذا الانتظار ، هو أحد أصعب أشكال المعاناة .. ونهاية الانتظار هي أجمل اللحظات التي يتطلع إليها الفرد الذي أنهكته عملية الانتظار بكل ما تحتويه من ألم في معايشة ما لا يريد ، وأمل في حلول ما يريد . وهنا يبدو جمال الربيع الذي أتى بعد طول انتظار ، أكبر بكثير من جمال الربيع بعيدا عن معاناة انتظاره .
كل تلك المعاني استطاع نزار أن يصل إليها من خلال إضافة مفردة واحدة هي ( عودة ) ، وهو ما فعله نزار دون تفكير مسبق كما يبدو ، لأن التدفق والاسترسال والسلاسة التي يتميز بها أسلوب نزار ، هي من خصائص العفوية التي تبقى أكبر شاهد على العبقرية .
العباقرة لا يدركون ماذا يفعلون ، لأنهم يفعلون ما يفعلونه بقصد اللهو وليس لأي اعتبار آخر . إنهم أطفال بالغون .
anaszahid@hotmail.com
للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS
تبدأ بالرمز (7) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى
88591 - Stc
635031 - Mobily
737221 - Zain