Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

هل نجحت أي ثورة؟!

سألني صديق من السودان الشقيق وقد أنسته عودة مشاهد المليونيات مجددا إلى ميدان التحرير بالقاهرة، ما يحدث في بلاده بعد التقسيم: ..ماذا جرى للثورة في مصر؟! إلى اين أنتم ذاهبون؟!

A A

سألني صديق من السودان الشقيق وقد أنسته عودة مشاهد المليونيات مجددا إلى ميدان التحرير بالقاهرة، ما يحدث في بلاده بعد التقسيم: ..ماذا جرى للثورة في مصر؟! إلى اين أنتم ذاهبون؟! قلت له وقد أدهشني أن يشغله شأن مصر عن شأن سوداني بات أكثر إلحاحا وخطورة، لكنه تراجع على قائمة الاهتمامات العربية بسبب الإنشغال بما جرى ويجري في مصر، وما جرى ويجري في جوارها بليبيا وسوريا واليمن:
في تقديري أن مشهد تنحية الرئيس المصري السابق حسني مبارك، لم يكن، ولا ينبغي له أن يكون، مشهد النهاية لأول ثورة شعبية منذ ثورة المصريين ضد الفرعون بيبي الثاني على ضفاف النيل قبل أكثر من أربعة آلاف وخمسمائة عام، فمشهد تنحية مبارك هو أحد مشاهد الذروة في الحدث الثوري، لكن الثورة ذاتها ما تزال في حالة فوران قد يرى البعض أنها طالت قليلاً، وإن كنت أرى أن استمرار الفوران طبيعي، وأن العودة الى ميدان التحرير طبيعية أيضاً، لأسباب كثيرة لعل من بينها ما يلي:
أولاً: أن الثورة الشعبية المصرية في 25 يناير، بدأت - وما تزال- بلا رأس، فهى حركة جسد عملاق يمتلك الطاقة، والقدرة، والإرادة، لكنه يفتقد بعد إسقاط مبارك إجماعاً على خطة بعينها.
ثانياً: أن غياب الرأس قد أغرى كثيرين - قوى وجماعات وزعامات مفترضة - بمحاولة القفز الى المقعد الأول، سواء بأفكارهم أو بطموحاتهم، وأحيانا بأفكار غيرهم وبتطلعاتهم الذاتية.
ثالثاً: أن إسقاط مبارك كان في حقيقته إزاحة لأحد أركان نظام سياسي شمولي عتيق هيمنت عليه النزعة الفردية على مدى عشرات السنين، جلس طوالها الشعب في مقاعد متفرجين كانوا يصفقون خوفاً، أو يكتمون الأنين، لكن عملية الهدم «الثوري» بعد الإطاحة بالرئيس السابق، سارت ببطء شديد، وبتردد واضح، كان طبيعيا أن يطرح بدوره تساؤلات حول ما إذا كانت القوى التي اسندت اليها عملية «إدارة الثورة» من قبل الثوار( الجيش)،جادة في استكمال مشروع الثورة، أو لديها بحق رؤية تستطيع استكمال المشروع هدماً ، ثم إعادة بناء.
رابعاً: أن ثمة إجماعاً - كان- قائما في ميدان التحرير، الى لحظة تنحية الرئيس السابق، اختلفت بعده قوى الثورة في الإجابة عن السؤال: ثم ماذا بعد؟! ولهذا شاهدنا جدالاً طال وأوشك أن يعصف بالجميع حول ما إذا كان يتعين وضع دستور الثورة أولاً أم إجراء الانتخابات البرلمانية أولاً.
خامساً: أن القوى التي تدير الثورة الآن( المجلس العسكري ) ليست هى ذاتها القوى التي خرجت للإطاحة بالنظام السابق، ثم إن ثلاثين عاما متصلة من حكم مبارك، لم تدع شخصا أو جماعة سياسية، بمنأى عن شبهة التعاون مع نظام مبارك أو على الأقل «التعايش السلمي معه».ولهذا بدا صعبا أو حتى مستحيلاً العثور على شخص أو جماعة لم يكن طرفا في علاقة ما مع النظام السابق، فالأموات فقط الذين ماتوا قبل عام 1981 هم من لم يتنفسوا هواء حقبة مبارك ولم يعملوا ضمن مؤسسات حكمه، ولهذا بدا الإصرار على البحث عن رموز وقيادات ومسؤولين ومحافظين ونواب لم يكونوا على صلة بعهد مبارك مطلبا رومانسياً طفولياً، لا يستوعب بوعي حقيقة أنه ليس كل من تنفس هواء مصر في عهد مبارك قد أصبح مدنساً، وإلا لبات المصريون كلهم شعبا دنسته حقبة تاريخية واحدة ، وهى وصمة أظن أن مصر بعمق تاريخها أكبر وأقوى بكثير من أن توصم بها.
سادساً: أن طول فترات الحيرة إزاء خيارات غير واضحة، وتعدد قوى الحائرين وتنوعها، كان حريا أن يدفع بمحاولات الإجابة عن خيارات مبهمة أو غير واضحة، الى محاولة الاستقواء بالشارع مجدداً، ولهذا عاد الناس الى ميدان التحرير، مطالبين بتصحيح وجهة الثورة وتسريع خطاها.
سابعاً: أن ما جرى ويجري ظل أشبه بصراع قوة ومقاومة،كان من الطبيعي ان تنتج عنه طاقة راحت تفتش لنفسها عن مسارات جديدة مفتوحة ومبدعة، لكن تلك الطاقة قد تصبح مدمرة مالم تعثر على مسارها وتشق طريقها باتجاه إحداث التغيير الذي تستهدفه الثورة.
ثامناً: أن ثمة حالة من الإعجاب بالذات قد سيطرت على المناخ المصري العام بعد الثورة، قد تصيب المصريين بهوى تحطيم الأرقام القياسية ودخول موسوعة جينيس، فهم قد اسقطوا نظاما عتيداً في ثمانية عشر يوماً فقط، وهم أول ثوار يقومون بتنظيف وإصلاح وترميم ما أفسدته وقائع المواجهات اليومية في ميدان التحرير طوال أيام الثورة، وهم أصحاب أعلى رقم قياسي لمتظاهرين خرجوا الى الشوارع في ثورة ضد النظام(أكثر من سبعة بالمائة من مجموع السكان)، ثم انهم يتطلعون الآن الى انجاز عملية هدم سلمية.. سلمية..والشروع في عملية إعادة بناء عصرية.. عصرية.
تاسعاً: أن منطقة الشرق الأوسط لم تشهد على مدى آلاف السنين نموذجا لثورات شعبية مبدعة تمكنت من إنجاز مشروع بناء الدولة الحديثة، بكل مقوماتها الدستورية والتشريعية والمؤسساتية، ولهذا فليس ثمة نموذج شرق أوسطي يمكن استلهامه في مرحلة الانتقال، أما في أوروبا ( شمال البحر المتوسط) فإن تجارب بناء أسس الدولة الحديثة تبدو عتيقة جرت قبل قرنين وأكثر، فضلا عن اختلاف المنطلقات القيمية للحضارتين الغربية والإسلامية الأمر الذي لا يتيح نموذجاً جاهزا يمكن استلهامه وترسم خطاه.
عاشراً: أن شباب ميدان التحرير ورموز النخبة المثقفة المصرية ربما حملوا في صدورهم حلم تكريس «النموذج»، الأمر الذي قد يحملهم مالا يطيقون، وقد يدفع بالتجربة الى مواجهات مبكرة مع قوى لا تريد للنموذج أن ينهض أو يستقيم.
حادي عشر: أن مهمة إرساء نموذج لعملية الانتقال من عصر ما قبل الدولة الحديثة الى قلب العصر، سوف تقتضي بالضرورة حوارات في العمق للمواءمة بين ثقافة تضرب بجذورها في أعماق التاريخ وبين عالم يشرئب بعنقه نحو الكواكب الأخرى بحثا عن متنفس لسكان كوكب متخم بسكانه وفقير بثرواته،وهى حوارات لابد أن تجريها عقول باردة وقلوب مفعمة بالأمل والإيمان معاً.
هذا ما قلته للصديق من السودان الشقيق، وما لم أقله كثير، لكن أكثر ما يلفت الانتباه هو أن ثمة اهتماما عربيا واسعا وعميقا بما يدور في مصربينما تتطلع شعوب ليبيا واليمن وسوريا الى تغيير سلمي يتيح لها وضع قدمها عند أول أعتاب المستقبل باتجاه عصر الدولة المدنية الحديثة، ولعل هذا ما يضاعف مسؤولية أولئك الذين يرعون التجربة المصرية.
للتواصل مع الكاتب ارسل رسالة SMS
تبدأ بالرمز (21) ثم مسافة ثم نص الرسالة إلى
88591 - Stc
635031 - Mobily
737221 - Zain

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store