Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر

مضمرات الخطاب المتشدد والآخر المنفي

No Image

A A
ثمَّة حالة إقصاء مضمرة تتشكَّل داخل كينونة الخطاب الناتج عن التيارات المتشدِّدة، سواء كانت دينيَّة، أو مدنيَّة، ذلك الإقصاء يتجاوز الصيغ المباشرة في الرفض والنبذ إلى صيغ خفيَّة تتأسَّس على مبدأ التجاوز القصدي، وإغفال ذكر الآخر؛ بغية تغييب حضوره دلاليًّا، والانطلاق من فكرة كونه كيانًا مرذولاً، ومدنسًا من شأنه أن يفسد شرف الخطاب.

شرف الخطاب لدى التيارات المتشدِّدة يمثِّل قيمةً عُليا، يوازي قيمة الشرف لدى البيئة العربيَّة، ذلك الشرف الذي أقيمت دفاعًا عنه حروب شتَّى، ومُزِّقت من أجله أشلاء شتَّى أيضًا، ولذا فإن الخطاب يمارس كذلك عمليَّة وأد الآخر عبر إماتته نصيًّا، ودفنه خلف رسوم الأحرف المتعالقة في مشهدٍ جائزيٍّ يشابه سلوك الإنسان الجاهلي، الذي كان يفاخر بدفن ابنته هربًا من العار المزعوم.

الآخر المختلف، وإن دُفن بين أسطر الخطاب المتشدِّد، إلاَّ أنَّ غيابه القسري يتحوَّل -بحد ذاته- إلى حضور يثير تساؤلات عن غيابه، تمامًا كحالة القتيل عندما يسعى مَن قتله إلى دفنه دون أن يعلم عن مصيره أحد، حتَّى تبدأ خيوط الجريمة بالانسلال خيطًا خيطًا، وتبدأ الضحيَّة بالانتصار لنفسها بوساطة تكشّف الأحداث تباعًا، وكأنَّها نهضت من مرقدها لتثبت حضورها الفاعل وتسدل الستار بسكينة لتأخذ العدالة مجراها.

قراءة الخطاب بناءً على إفرازات النظريَّات الما بعد حداثيَّة تشبه كائن (السعلوة) التي قِيل عنها في الأساطير بأنَّها تأتي ليلاً لتنبش القبور، وتخرج الموتى، والأموات في الخطاب هم أولئك المهمَّشون المتعمَّد تغييبهم عن المشهد الدلالي، هم الهامش الذي تعالى عليه متنه ليظهر بأسلوب بطولي في منتصف الصفحة، بينما يقبع المهمش في الأسفل.

المختلف في النظريَّات المعاصرة كائن سرمدي يحضر عندما لا يكون حاضرًا، ينطق حينما يُراد له الصمت، النظريَّة تفرض عدالة قرائيَّة ترفض مبدأ الاستعلاء على الآخر، وتقيم محاكمة منطقيَّة يتكافأ فيها الخصوم أمام قضاء التلقي، ذلك القضاء القادر على أن ينصف الهامش، ويعيد كتابة الملغي، ويمنح حنجرته للأخرس حتَّى ينطق ويبوح ويتساءل.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store