Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
لمياء باعشن

الوعي الوطني يواجه الأزمات

A A
الوطنُ ليس فندقًا مريحًا، نرضى عنه ما دام يقدِّم لنا الخدماتِ التي ننشدُهَا، ثمَّ نتنكرُ له إن نقصتْ تلك الخدماتِ، وقلَّت نسبةُ رضانا. حبُّ الوطن لا يعرف الشروط، ولا المقايضات، ولا المساومات: هو حبٌّ ينبتُ في الأعماقِ، ويتجذَّر داخلَ الأرض، ويمتدّ منها إلى العروقِ، حيث يظلُّ ثابتًا وصامدًا.

الوطنُ هويةٌ وانتماءٌ وولاءٌ، يحتوي الأهلَ والأقرباءَ والأصدقاءَ داخل دائرته الأوسع، ثمَّ يأتيك مَن يحاول انتزاعه من داخلك، ويجعلك تنقمُ عليه، وتعمل ضدَّه. أيّ وعي ساذج يستجيب لمزاعم التهوين من قيمةِ الوطنِ التي تحوِّله إلى «وثن»، وتحوِّل أرضَه الطيِّبة إلى «حفنةِ ترابٍ»؟ أيّ وعي غائب لا يرى أنَّ الوطنَ إنْ هانَ فقدْ هُنْت وأُهِنْت، وأنَّ من يزعم لك هوانه، يريدك في الحقيقة أن تتخلَّى عنه ليستولي هو عليه، وأنَّ مَن يقلِّل من قيمته في قلبك، يستكثره عليك، وينوي الاستحواذ عليه دونك؟

كلُّ الشعوب تفتخر بأوطانها، وتتمسك بأراضيها، لكن الخطاب السياسي المتدِّين يريد أن تشذَّ عن تلك القاعدة البشريَّة الطبيعيَّة بأن تنفرَ من وطنك؛ لكي تستسهلَ انسحابه من تحت أقدامك. يريد ذلك الخطاب النشاز أن يُفهمكَ أن أرضك ملكٌ للمسلمين، وبينما يحافظ كل المسلمين على أوطانهم، ويحمون هويتهم، تبقى أنت الوحيد بلا هويَّة، ولا وطن، لأنَّهم أفهموك أنَّهما يتعارضان مع إسلامك.

فكِّر جيدًا إنْ هم خيَّروك بين وطنك وإسلامك، اسأل نفسك: لماذا لا توجِّه هذه الأبواقُ المدسوسةُ هذَا السؤالَ لغيركَ من المسلمين؟ لماذَا لا يوجِّهونه لمواطني البلدان التي يحبونها، ويلجأون إليها، ويدافعون عنها؟ لماذا لا يُسأل القطريُّ، أو الإيرانيُّ، أو التركيُّ عن اختياره بين بلاده ودينه؟ لماذا لا يعتبرون إيران وثنًا، أو تركيا حفنةَ ترابٍ؟ لماذا يُبقي كل مسلم على روابطه بالوطن وبالأرض، وتتنازل أنت عن «وثن وحفنة تراب»، ثمَّ تتشرَّد في بلاد غريبة، وتترك وراءك وطنًا خرابًا؟

الوطنُ عزَّةٌ ورفعةٌ وأمانٌ، هو صلة الحياة مع ماضيك وحاضرك ومستقبلك. أي وعي زائف يجعلك تقف كالمتفرِّج، ولن أقول كالشامتِ، وأنت تراه يتعرَّض لأقل هجوم، ولا تبذل أدنى جهدٍ للدفاع عنه، والتصدِّي للهجوم بأيِّ سلاح تملكه؟ حبُّ الوطنِ يعني أن تنبري مجابهًا لكلِّ كلمةٍ تسيء إليه، لا أن تسافرَ بعيدًا عنه، ثمَّ تظهر في وسائل إعلام أجنبيَّة لتشوِّهه وأنت منتشٍ بشجاعتك الوهميَّة.

حبُّ الوطنِ يعني أن تزيحَ عن كاهله كلَّ تعب، وتوظِّف نفسك جنديًا يذود عنه كل خطر، لا أن تضيفَ إلى متاعبه، وهمومه بإثارة المشكلات من حوله، ثمَّ تدَّعي أنَّ مَن يحب وطنه هو مَن يقدِّم له النصح ليسترشد به في وقت الأزمات. الوطنُ حضنٌ يضمُّك، ويسترك، ويرفع من شأنك، فأيّ وعي فارغ يجعلك تصطف مع خصومه، وتدير له ظهرك، وتخذله وقت احتياجه لك؟

في الموقف الأخير للمملكة مع دولة قطر، اتَّضح مقدار حبِّ المواطنين لهذا الوطن، فقد تقدَّم الكثير منهم إلى خط المواجهة على وسائل التَّواصل الاجتماعيِّ، وعلى صفحاتِ الجرائد، وعلى شاشاتِ التلفزيونات، منافحين بكلِّ جرأةٍ ومحاججين بكلِّ قوة.

أقلام وأصوات ووجوه هبَّتْ للدفاع عن الوطن؛ حبًّا فيه، وتمسكًا به، كثير منهم انخرطوا في نقاشات عميقة، وتابعوا كلَّ مستجد، واستعدوا بمعلومات ووثائق وتسجيلات، كانوا جنودًا في ساحة حرب تطوّعًا واندفاعًا ذاتيًّا، كلهم استشعروا واجبهم الذي حرَّكته نبضات وعيهم قبل قلوبهم.

حبُّ الوطنِ ليس عاطفةً متدفقةً فقط، بل هو وعي بقيمة المكان المزروع داخلنا، المكان الذي هو كيان نستمد منه معنى الانتماءِ والاحتواءِ. وفي موقفِ المملكةِ مع قطر، بقيت هناك قلائل من الناس اختارت الحيادَ، وجنحت إلى الصمتِ، ودعت إلى التسامحِ: قلائل تراجعت، واستدارت، وخذلت، ولم تكن درعًا للوطن بوعيها.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store