Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

أسئلة قلقة عن الترجمة والطباعة والثقافة

A A
روابطنا بالعصر تكاد تكون واهية وميتة. السر العظيم الذي يجعلنا نختزل الزمن ونقترب من جهود الآخرين ونفهمها هي الترجمة بوصفها جسر تواصل عميق. ماذا تساوي لدينا ثقافيًّا؟ وهل فهمنا دورها الإستراتيجي فمنحناها فرصًا للحياة؟ لنتأمل المسألة عن قرب. ما يترجم في العالم العربي يديننا وينبئ بكارثة حقيقية. بحسب الإحصاءات الرسمية لليونسكو الحالة غير مريحة بل وكارثية. دولة مثل إسبانيا وهي صغيرة إذا ما قيست بمجمل الدول العربية، تترجم منفردة أكثر مما يترجمه العرب مجتمعين في السنة الواحدة تترجم أكثر مما ترجمه العرب عبر التاريخ منذ مدرسة المأمون. شيء مخجل. المبادرات العربية الكبيرة التي يفترض أن تسد بعض النقص في المشروع الترجمي العربي، لا تعني شيئًا مطلقًا، لأنها وسط هذا التأخر الذي يجب أن يستدرك بسرعة، لا تظهر قيمتها أبدًا أو تظل محدودة. استدراك الفجوة أكثر من ضرورة لإعادة اكتشاف وفهم عالم يسير بسرعة من ناحية الاكتشافات والعلوم والتطور. بدون ذلك سيظل العرب على هامش عالم ينتهي إلى التخلي عنهم وتركهم خلفه. مع أن الكل يدرك أن الترجمة هي الضرورة القصوى لتخطي معضلات النقص المحلي.
في مجال النشر والتأليف والتوزيع الوضع ليس أفضل. في هذا السياق أيضًا يحتل العرب المرتبة الأخيرة أو يكادون، ويحتاجون إلى نفض الغبار. كل الأموال التي يملكونها لن تؤهلهم لاحتلال أية رتبة مرموقة في هذا السياق. المال عتبة مهمة لكنه يحتاج إلى من يضعه في مداره الحقيقي ليكون نافعًا. النشر يعني وضع الثقافة بمختلف الوسائط بين أيدي أفراد الشعب والعمل على إيصالها بمختلف الوسائل. النشر لا يعني طباعة الكتب الكثيرة. النشر يعني الطباعة والتوزيع والمتابعة. وهذا يحتاج إلى جهود تنضوي تحت نظام وتسير وفق أفق خاص وواضح. التحفيزات مثلًا تكاد لا توجد. يُنشر الكتاب، ويُترك يعوم في الفراغ. لا يوجد أي جهد في الإشهار والدعاية. الكتاب مثل المولود لا يسير وحده ويلبي حاجاته الوجودية بقوته الخاصة. العناية به أكثر من ضرورة ليبلغ منتهاه، وإلا لا جدوى. لولا المعارض التي خرجت عن وظيفتها العالمية التقليدية، أي فضاء للعرض واكتشاف الجديد من حيث صناعة الكتاب وتبادل عقود الترجمة كما هو الحال في معرض فرانكفورت. المعارض عربيًّا تحولت إلى أسواق كبيرة للكتاب العربي. بزيارات وواجهات وفاعلون يأتون لتوقيع كتبهم. وهو أمر ليس سيئًا من حيث المبدأ، إذ أصبح بإمكان القارئ العربي انتظار كتابه وكاتبه مرة في السنة، بمناسبة معرض بلاده. ما عدا ذلك، الكتب تُطبع وتتكدَّس وبعد مدة تمر على طاحونة الاسترجاع الورقي. الوعي في هذا المجال يظل محدودًا. الدولة التي تنشر من خلال مؤسساتها المخولة بذلك، وحتى دور النشر الخاصة تظن أن واجبها يتوقف عند حدود النشر، وكأن للكتاب أجنحة. هاري بوتر لم تبع ٥٠٠ مليون نسخة بترك الكتاب يعوم في الفراغ وعلى الرفوف. ولا 50 مليون من شيفرة دافنشي بضربة ساحر. فهناك مال كبير سُخِّر للدعاية للكتاب وتوصيله لقارئه. وتحويله إلى ظاهرة استثنائية يذهب نحوها القراء برغبة كبيرة لاكتشاف أسرارها والسحر الذي يتخفَّى بين أوراقها. السند الإعلامي للكتاب تكاد تخلو منه الصفحات الثقافية. مفارقة بسيطة توضح الأمر جليًّا. ما يخصص عربيًّا للرياضة للدعاية والحصول على أهم اللاعبين في الميركاتو العالمي، يكاد يكون مرعبًا. يفترض أن يجعل بلداننا العربية تحتل المراتب الأولى. مع أن الرياضة هي أكبر مساحة لخسارتنا المتكررة. ماذا حققنا في الرياضة محليًّا وعالميًّا؟ لا شيء يُذكر. الأموال المسخرة تكاد لا تحصى، لكن النتائج مخجلة دائمًا. ففي الوقت الذي تخصص فيه للرياضة يوميًّا ملفات وملاحق ثقافية، ومواقع إنترنت، وحصص تليفزيونية، ومجلات ملونة، لا تحصل الثقافة على شيء. مع أن للرياضة الحق في الاهتمام والوجود وتشييد البنية التحتية الكافية لها، وللثقافة أيضًا الحق في الوجود والنمو والتطور. كم بنينا وشيدنا من مسارح؟ أوبرا؟ دور للثقافة؟ صالات معارض فنية ضخمة تمنح الفرص التأهيلية العالمية للشباب؟ بالمقابل كم شيّدنا من ملاعب ضخمة لكرة القدم تحديدًا مع نتائج نفتخر بها وهي باهتة؟، مع أن الثقافة الفنية هي من يصنع التوازن الفردي والجمعي ويوجهه نحو ما يخدم بلاده وإنسانيته. وهي ما بقي لنا للشعور بأننا ننتمي لهذا العالم، لأننا نسهم فيه بأبحاثنا وموسيقانا. في غياب هذه الجهود، لن نصنع في النهاية إلا قصرًا لامعًا في خارجه، وفارغًا من الداخل. ويجب ألا نفاجأ في النهاية كيف يتم تجنيد الشاب المفرغ وجوديًّا وروحيًّا وثقافيًّا للتخريب والإرهاب والعنف. ليتحولوا إلى قنابل موقوتة ضد أنفسهم أولًا، وضد أهليهم وبلدانهم، وضد إنسانيتهم.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store