Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. عادل خميس الزهراني

«عِشْ».. يا سوق عكاظ!!

A A
انطلقت ليلة البارحة فعاليات سوق عكاظ السنوية بحفل مميز، وبرنامج حافل يمتد لعشرة أيام محتشدة بالثقافة والفن والتاريخ، وقد أضحت عكاظ -كما كانت في الماضي- موعدًا سنويًّا للثقافة العربية ومحبيها، بعد أن كانت موعدًا للقبائل العربية منذ القدم: تحضر كل قبيلة مفاخِرة بفرسانها، وبشعرائها وخطبائها، كما كانت عكاظ فرصة للنقاش وحل القضايا المتعلقة، وفرصة للتواصل الاجتماعي والاقتصادي. كانت عكاظ مهرجانًا ثقافيًّا واجتماعيًّا تعرض فيها العرب ما تفاخر به من بضاعة، ولا شك أن اللغة العربية كانت البضاعة الأكثر تألقًا وتتويجًا؛ يتنافس الشعراء والفصحاء في عرض قصائدهم وخطبهم البليغة على القوم، وكم حفظت لنا كتب الأدب من القصص والمبارزات الحامية التي دارت في عكاظ وتحت قباب حكام الشعر وقضاة الكلمة.

حسنًا...

كان لابد من هذه المقدمة الرتيبة، قبل أن أتطرق للشعار التسويقي الذي اختارته -على ما يبدو- الشركة التسويقية للمهرجان، أقصد العبارة المزعجة: (عيش فعاليات عكاظ). ولن يكون من الصعب عليكم إدراك سبب انزعاجي من الشعار، وأنا المتخصص في اللغة العربية. فـ(عِيشْ) فعل أمر يحثُّ على الحياة، ونحن في جدة ومكة خصوصًا، نستخدمه في لهجتنا الدارجة، بهذه الصيغة لنحث الإنسان أن يعيش اللحظة بكل ما فيها من جمال وسعادة... الفعل «عيش» بالحجازي يكون مرادفًا للفعل: حَلِّقْ (من التحليق، لا من الحلاقة)، أو الفعل: تماهَ (من التماهي لا من التماهة!!). لكن المشكلة أن الجذر اللغوي «ع ش ا» يكون فعله المضارع: «يعيش»، وماضيه: «عاشَ»، ووفقًا لقواعد اللغة العربية التي تعود عكاظ كل سنة للاحتفاء بها والتذكير بأنها أهم أبعاد هويتنا، وأبرز مصدرٍ لإنجازاتنا، فإن فعل الأمر هو: «عِشْ».. أي من غير ياء المد.. مد الله في أعماركم وأعمارنا..!!

أُفكِّر الآن في افتراضين، قد يقف أحدهما خلف اختيار «عِيش» هذه: الأول أن الجهة المخولة باختيار هذه العبارة التسويقية كانت لا تعلم عن الخطأ اللغوي الذي اقترفته وحرصت كل الحرص أن تصدمنا به في شوارعنا ووسائل إعلامنا. وهو أمرٌ قد يغتفر، رغم صعوبة حدوثه.. فنسبة مرور هذا الخطأ دون ملاحظة ضئيلة جدًّا.

الافتراض الثاني، الذي لا يُغتفر -في رأيي- هو أن من اختار الفعل (عِيش) يعلم جيدًا أن هذه الصيغة لهجة محلية لا تتفق مع القاعدة الفصيحة للغة، لكنه رأى أن فعله هذا أقربُ لأسماع الناس، وبالتالي أقرب لقلوبهم، وأسهل على أمعائهم، الدقيقة منها والغليظة. وما دام الحال كذلك، فسيكون من الأفضل تسويقيًّا أن يشعر الناس أن السوق لهم ويقرروا زيارته، وحضور فعالياته المنوعة.

ونحن نعلم أن هذا السلوك متبع في مهرجانات تسويقية أخرى، لكن المشكلة أن سوق عكاظ ليس مهرجانًا تسويقيًّا كباقي المهرجانات.. عكاظ جسرٌ يصلنا بماضٍ جميلٍ كانت اللغة العربية الفصحى فيه منارةً تجتمعُ حولها -بكل فخر- قبائل العرب من كل مكان. هذه اللغة مليئة بكل مدهش وجذَّاب.. لذلك هي لا تحتاج لفذلكات التسويق ولا لتذاكي المعلنين.. تحتاج لمن يفهمها ويحترمها فقط..!!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store