Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

انتصار الرواية

A A
ما تزال الرواية سيدة الأجناس،عالميًا وعربيًا، ولم تجد النوع الأدبي الذي يزيحها من المشهد القرائي والاستهلاكي العالمي. فهي الاستثناء طباعة وتوزيعًا وقراءة، وشيوعًا أيضًا. فهي رهان دور النشر عبر العالم كله، ثقافيًا وسياسيًا، ولكن تجاريًا أيضًا. النصوص التي تخلق الحدث عالميًا من حيث البيع وعدد النسخ تثير الانتباه والإعجاب والخوف أحيانًا من أن يتحول الأدب إلى تجارة عمياء تهز القيمة والنوعية. منذ بدايات القرن العشرين وهذا النوع مصدر اهتمام متنامٍ، ولو كان منبع ذلك في البداية هو الرغبة في فهم هذا الوافد الغريب ومحاولة اكتشافه، بالخصوص بعد ظهور رواية زينب لهيكل. صحيح أن النقاش بين القبول والرفض كان حادًا ومفجرًا للبنية الثقافية العربية الغارقة في تقليدية متهالكة، ولكنه أدى إلى انتصار الرواية بدون أن يعني ذلك انتصارًا مسبقًا للحداثة، لأن هذه الأخيرة ولدت معطوبة في أسسها الاقتصادية والفكرية ونظمها السياسية. واستمر هذا الاهتمام في التنامي حتى أفق القرن الحادي والعشرين الذي يمكن اعتباره قرن الرواية بامتياز، أي قرن البحث عن فسحة جديدة للمخيال في زمن لم يعد لا سهلا ولا مضمونًا. زمن للحروب والموت والصدامات الكبرى والصراعات الحضارية الأكثر تدميرًا التي تلوح في الأفق. زمن يتأكد فيه باستمرار جشع البشرية وعودة منطق استعمارات القرن التاسع عشر الذي غير النظم والأفكار ووجهات البشرية.

الرواية في هذا السياق تبدو بتحولاتها الداخلية، أكثر الفنون مطاطية، واستيعابًا للخراب الحاصل، أي للتراجيديات المتلاحقة التي تبدو كهدير مخيف وكأن لا قوة تستطيع الوقوف في وجهها. فن الرواية، شكل من أشكال التوترات الإنسانية، والتوازنات البشرية لزرع الأمل في النفوس والبحث عن إنسانية أفضل. فهي رديف لغوي ومسار مواز للحياة، في تفاصيلها وبنياتها. أكثر من ذلك كله، فهي أكثر الأشكال الفنية جرأة. لا مقدس لديها، كل شيء قابل للتموضع الثقافي والأدبي، بما في ذلك شكلها الأدبي الخارجي الذي يتحول باستمرار بنيويًا تاركًا مكاسبه الأولى وفتوحاته للتاريخ. هذه الظاهرة ليست عربية فقط، بل أصبحت عالمية تتحكم في صيرورة الرواية وفي تماديها الحر في خلق فضاءات كتابية جديدة. أينما وليت وجهك فثمة ازدهار كبير لهذا الفن، من الصين إلى اليابان إلى أمريكا الشمالية واللاتينية إلى أوروبا إلى العالم العربي. فهي الفن الوحيد الذي لا يعرف منطق التخلف والتقدم أو الاختلافات السياسية والأيديولوجية. يمكن أن يكون هناك روائي عالمي كبير وهو قادم من بلد متواضع اقتصاديًا وثقافيًا، مثل إسماعيل قدري من ألبانيا التي لم تعد نشرات الأخبار تذكرها إلا في سياق ذكرها للكاتب، والكاتب عتيق رحيمي من بلد الحروب المتواترة في أفغانستان، والتركي أورهان باموك، إذ لم يمنع حرمان أوروبا انضمام تركيا إلى حظيرتها من الاعتراف به، ومنحه جائزة نوبل، ولم يمنع الحصار الممارس ضد العرب من منح نجيب محفوظ جائزة نوبل، والتفكير على الأقل في منحها في السنوات الأخيرة لدرويش، أدونيس أو آسيا جبار. لا يمر هذا كله بدون كسورات ثقافية إذ يتبدى فن الرواية كفن طغياني إمبريالي بمعنى الهيمنة المطلقة، لأنه يتوسع على حساب فنون أخرى، بل أكثر من ذلك، يستعير مكاسبها الفنية وبنياتها ويستثمرها داخليًا. وهذا طبيعي، لأن هذه الفنون الأخرى كالشعر مثلًا، وصلت إلى أفق الانسداد الكلي، ودخلت في دوران قاتل ومميت. مع أن الشعر في جوهره، يشكل الإحساس العميق للبشرية التي ستعود يومًا إلى طفولتها الأولى، ولن تجد أمامها إلا الشعر الذي يحميها من جبروت أفكارها المدمرة. فهو الأكثر تعبيرًا عن الشجن العميق وتراجيدية الأحاسيس الإنسانية.

ظاهرة شيوع وانتشار الرواية عربيًا وعالميًا، مسألة طبيعية لقدرتها على العيش والتجدد الشكلي والمضموني. بينما الشعر أرستقراطي ومحافظ في بنيته وصرامته. فهو غيور جدًا على نظامه ولهذا.. فهذا النظام يثبِّت الأشياء في مكانها ويحرمها من التطور، بينما تظل الرواية فنًا شعبيًا بامتياز، ولا مشكل لديها في إحداث تغيرات عميقة في بنيتها الجذرية. قد تقف أحيانا بعنف ضد كل النظم التي شيدتها فتدمرها وتعيد بناءها وفق معطيات جديدة، ولهذا تكتب لها الحياة كلما ظننا أنها على أبواب الاحتضار والموت. فقد استطاعت الرواية أن تدمج ضمن نظامها الداخلي المعقد، الشعر والمسرح والتشكيل والموسيقى، والكثير من الفنون الأخرى. ولهذا لا نفاجأ بتجددها الدائم وقدراتها على الحياة والاستمرار.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store