Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

العربية ليست لغة مآتم.. درس محمد الأمين ساسي

أجمل حظوظ الكُتَّاب، أن يأتيهم طفل بحجم وبراءة وذكاء محمد، ويُعطيك درساً داخل اليأس المعمّم. الدنيا ببعض الخير، واللغة العربية لم تمت. يقتلها فقط الذين يحنطونها، ويدفنونها، وهي لا تطلب منهم أكثر من السماح لها لتكون أداة تعبيرية حية. تتحدث عن الحب، عن الحياة في عز عنفوانها

A A
قصة طريفة تستحق أن تُحكَى. هو طفلٌ صغير ولا يعرف أني أكتب عنه لأن ردة فعله، على بساطتها، أثَّرت فيَّ كثيراً. ولكني أشهد أني رأيت سعادة طفولية كبيرة ارتسمت على وجهه بقوة أدخلت النور إلى عينيه الباسمتين في الصباح. في رحلة ١٠٠٢ باتجاه باريس من الجزائر، على الساعة السابعة والنصف صباحاً. قبل النزول بقليل، جاء نحوي بشكلٍ مباشر، على خديه مسحة خجل خفيفة وقال: عمو واسيني أنا أعرفك وأحبك. مسحت على شعره الجميل المنسدل على جبهته، مثل أعضاء فرقة رولينغ ستون. وال، بعد أن أشرقت على محياه ابتسامة جميلة. رأيتك في التلفزيون وقرأت لك. ممكن تكتب لي كلمة على الورقة لأظهرها لأصدقائي لأنهم لن يُصدِّقوا أني رأيتك. سألته؛ هل تريد الكتابة بالعربية أم بالفرنسية. أجاب براحةٍ كبيرة ولا سياسة: كما تريد عمو. أصررتُ ماذا تُفضِّل. فال بخجلٍ: بالعربية إذا كان لا يوجد أي مانع من ذلك، هي لغتنا؟، كتبتُ كلمات دافئة لصباحٍ بارد. أن تكتب لبالغٍ سهل. تعرف لغته. تعرف أيضا ما الذي يُسعده. ماذا تكتب لطفل؟، إما أن تنصحه بضرورة القراءة والانتباه لدروسه، وفي هذه الحالة تُشبه الوالدين والمعلم. وهو ينتظر منك لغة أخرى. لا أدري هل أفلحت أم لا، ولكنني كتبتُ ما انتاب قلبي لحظتها. في الدنيا طيور جميلة حتى عندما تتعب لا تنزل، ولكنها تقوم من التعب وتواصل رحلتها حتى النهاية. أتمنَّاك يا محمد ذاك الطائر الملون. تذهب نحو القراءة لا لكونها تعلمنا المفردات والكلمات الجديدة، هذه نجدها في القواميس. ولكنها تفتح أمامنا القارات المغلقة التي نهب نحوها بحرية ولا نحتاج لأي جواز سفر، ولا لأية فيزا، ولا لإذن من أحد. ثم نسكنها أياماً. وكلما اشتقنا لها تُخبئنا في أعماقها. تلك لغتنا الحية التي تعرف كيف تنشد الحياة وعظمتها. العربية ليست لغة مآتم. ليست اللغة العربية مطفأة نضع فيها حرائقنا وهزائمنا، هي مساحة للحرية. القراءة وحدها السبيل للوصول إلى فك شيفرات النص وحده. دمتُ لي يا محمد صديقا جميلا. وحبيبا قريبا. احذر يا محمد أن تسرق منك عفويتك اللغوية البسيطة والجميلة. ابتسامتك نور. اتركها على وجهك حتى في أصعب الظروف. ابتسم محمد بإشراق: أنا أيضا يا سيدي أحب القراءة وما تكتبونه. وضع قبلة على خدي الأيمن ثم انسحب إلى مكانه يقرأ الإهداء الطويل. كانت الطائرة قد بدأت في الهبوط. أجمل حظوظ الكُتَّاب، أن يأتيهم طفل بحجم وبراءة وذكاء محمد، ويُعطيك درساً داخل اليأس المعمّم. الدنيا ببعض الخير، واللغة العربية لم تمت. يقتلها فقط الذين يحنطونها، ويدفنونها، وهي لا تطلب منهم أكثر من السماح لها لتكون أداة تعبيرية حية. تتحدث عن الحب، عن الحياة في عز عنفوانها وأيضاً في صراعاتها مع ذاتها. أن تخرج من دائرة التحنيط والموت المقنع. محمد يُحب اللغة العربية، يقرأ بها ويكتب بها، لكنه ولا يكره اللغات التي تعلمها. فهي محمية بحبه لها وهذا حقه. اللغة حب أيضاً. ربما احتاجت اللغة العربية، بمناسبة يومها العالمي، إلى الكثير من الحب لتستمر حية ومعبرة وحركية أبدًا.
contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store