Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

حين يخطئ المسؤول.. يستقيل!

A A
«يمكن لاعتذارٍ بسيط أن يكون كافيًا للتبرير حين يتأخر أي إنسانٍ عن العمل.. ولكن، بالنسبة لأحد لوردات بريطانيا، كان الوقت قد تأخر جدًا للاكتفاء بمقولة: أنا آسف».

بهذه العبارة بدأت صحيفة (واشنطن بوست) العريقة تقريرها عما جرى، الأربعاء الماضي، في مجلس اللوردات، أحد مجلسي البرلمان البريطاني.

ففي ذلك اليوم، انعقد المجلس المذكور لمناقشة جملة قضايا، ومساءلة الحكومة عن موضوعات محددة، بالنيابة عن المواطن البريطاني العادي. وفي غياب رئيسة الوزراء تيريزا ماي بسبب زيارتها الرسمية إلى الصين، كان يُفترض أن يحضر الجلسة وزير التنمية الدولية، اللورد مايكل بيتس، ليجيب عن أسئلة أعضاء المجلس، بالنيابة عن الحكومة وعن رئيسة الوزراء المسافرة.

بدأت الجلسة في وقتها المحدد، طبعًا.. ولسببٍ ما، تأخر وصول الوزير بيتس إلى القاعة خمس دقائق. خلال تلك الدقائق، سألت البارونة روث ليستر، العضو عن حزب العمال المعارض، سؤالًا عن موضوع (عدم المساواة في الدخل)، وبما أن الوزير لم يكن موجودًا، قام أحد الوزراء الآخرين بالإجابة عن السؤال، وكان يُفترض أن تمضي الأمور بعد ذلك بشكلٍ روتيني.. ولكن، لا.. ليس في بريطانيا.

دخل الوزير بيتس بعدها مباشرةً، وبعد أن استفسر بسرعة من زملائه عما جرى في الدقائق السابقة لوصوله، أخذ مكانه في منصة الإجابة داخل المجلس وقال مايلي: «أريد أن أقدم خالص اعتذاري للبارونة ليستر على فظاظتي وقلة احترامي بعدم الوجود حيث يجب أن أكون للإجابة على سؤالها المتعلق بمسألة مهمة جدًا في بداية جلسة الأسئلة. خلال السنوات الخمس الماضية التي حظيت فيها بامتياز الإجابة على الأسئلة من هذا المنبر بالنيابة عن الحكومة، كنت مؤمنًا دائمًا بأن علينا أن نرتقي إلى أعلى درجات الاحترام والمسؤولية، في معرض تعامل الحكومة مع الأسئلة المشروعة التي يطرحها المُشرِّعون. إنني أشعر بالعار لدرجةٍ بالغة لعدم وجودي حيث يجب أن أكون، ولهذا، فإنني سأتقدم باستقالتي إلى رئيسة الحكومة، مع تنفيذ ذلك على الفور. أنا أعتذر».

تعالت أصوات أعضاء المجلس بكلمة «لا»، لكن الوزير لملم أوراقه وقام بمغادرة المجلس، وسط محاولات بعض الأعضاء مطالبته بالعودة.

ولكي يكتمل الموقف بأسره بطريقةٍ تُظهر، ولو جزئيًا، لماذا أصبحت جزيرةٌ مرميةٌ على جانب أوروبا دولةً اسمها بريطانيا العظمى، وربما ليكتمل قهر الإنسان العربي ويموت همًا وكَمَدًا، لم تمضِ ثوانٍ على الموقف إلا وانطلق المتحدث باسم مجلس اللوردات بالكلام ليعلن الانتقال إلى البند التالي في جدول الأعمال، وكأن شيئًا لم يكن.

هكذا، ببساطةٍ وعفوية ومناقبية عالية، اعترف الرجل أنه أخطأ، وأن النتيجة الطبيعية لهذا الخطأ تتمثل في أن يبادر لمغادرة منصبه بنفسه. شعر أنه كان المسؤول عن مهمةٍ يقوم بها لخدمة مواطنيه، فرأى من المنطق أن يكون (مسؤولًا) بالمعنى الصحيح للكلمة، ويتحمل مسؤولية الخطأ بدل أن يبحث عن الأعذار، مع أن إيجادها ممكنٌ على الدوام، ومع أنها قد تكون مشروعةً وحقيقيةً في بعض الأحيان، كما هو الحال تحديدًا مع هذا (الخطأ).

وبنفس الدرجة من البساطة والعفوية، استمر المجلس (المؤسسة) في عمله، ولم تتعطل مهماته بسبب موقف الوزير (الفرد)، مهما كان هذا الموقف نبيلًا ومثيرًا للإعجاب والحماسة.. ومع أن رئيسة الوزراء لم تقبل استقالة الوزير، بعد ذلك.. ومع أن البارونة ليستر قالت أن بيتس هو آخر مسؤولٍ في بريطانيا تريد له أن يستقيل بسببها، من واقع تاريخه المشرّف.

المنصب الحكومي مسؤوليةٌ قبل أن يكون أي شيء آخر.. وارتباط المنصب بمفهوم المسؤولية عاملٌ أساسي في الحفاظ على التوازن السياسي في أي مكان، لأن فقدان الارتباط المذكور يهزّ المشروعية، ويؤدي دائمًا إلى التخبّط والفوضى. ولأن هذا المفهوم غائبٌ إلى درجة كبيرة في هذه البقعة من العالم، فإن ثقافة الاستقالة من المنصب الحكومي نادرةٌ في بلاد العرب.

من المؤسف طبعًا أن نضطر إلى استعارة الأمثلة والشواهد من الغرب في هذا المجال.. فمفهوم المسؤولية ركنٌ أساسي من أركان الثقافة الإسلامية والعربية الأصيلة، التي تؤكد دائمًا على أن المنصب هو تكليفٌ قبل أن يكون تشريفًا، وعلى أنه أمانةٌ كبيرة وخطيرة تبقى في عنق حاملها إلى يوم الدين.

هنا يُصبح مفهوم المسؤولية نابعًا من داخل الإنسان ومُنسجمًا مع شعوره بقيمة أخيه الإنسان وحرمة دمه وماله وعرضه وكرامته، على مستوى الأفراد وعلى مستوى الجماعة البشرية. ورغم أهمية أنظمة المحاسبة والمتابعة والرقابة في ضبط مسؤولية صاحب المنصب إلا أن إيمانه بتلك المعاني الأساسية هو العنصر الأقوى في ضمان التزامه بمقتضيات مسؤوليته. فأكثر الأنظمة صرامةً لا يمكن أن تضبط إنسانًا يريد أن يخون الأمانة في معزلٍ عن ذلك الإيمان.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store