Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
وائل مرزا

في استقالة الوزير البريطاني المخطئ.. هذه ليست القاعدة في الغرب

A A
ثمة حدٌّ أدنى من الموضوعية يجب أن يتحلى به كاتب المقال الصحافي.. فضلًا عن الأمانة الملقاة على عاتقه (وعاتقها طبعًا)، في تحليل الظواهر والعمل على تفسيرها بشمولٍ ومسؤولية.. وفي انتقاد سلبيات واقعنا المعاصر بدقةٍ، ولكن أيضًا بعدلٍ وإنصاف.

وحين تتعلق المسألة بنقد النماذج والمشكلات السلبية في المجتمع، يكون محظورًا دومًا الوقوع في جَلد الذات، أو تعميم وتضخيم الإيجابيات في معرض الحديث عن (الآخر) والمقارنة به، من جانبٍ آخر.

المؤكد أن ضيق فسحة مقال الرأي تُشكل تحديًا على الدوام، خاصةً في معرض تحليل ظواهر معقدة تحتاج إلى بعض تفصيلٍ وبيانٍ ومعلومات، لا تتسع لها تلك الفسحة، بما يضمن الشمول والدقة والإنصاف.

ليست هذه دومًا مسؤولية الصحيفة في عصرٍ بات أغلب القراء فيه يبحثون عن المعرفة بطريقة (السندويشة) كما يقولون.. ومع شيوع أدوات التواصل الاجتماعي التي تؤكد معاني الاختزال والتبسيط في عرض الظواهر والحديث عنها، لا يُشجّعُ هذا الواقع أي صحيفة يومية على نشر المطولات، وتحديدًا في صفحات الرأي.

في مثل هذا اليوم من الأسبوع الفائت، كتبتُ هنا مقالًا بعنوان «حين يخطئ المسؤول.. يستقيل».. كان هذا في معرض الحديث عن موقف وزير التنمية الدولية البريطاني، اللورد مايكل بيتس، حين استقال من منصبه؛ بسبب تأخره خمس دقائق عن اجتماع مساءلة للحكومة من قِبَل مجلس اللوردات، فاتهُ خلالها سؤالٌ كان يُفترض أن يكون موجودًا ليُجيب عنه.

الموقف أخلاقيٌّ ونبيلٌ دون أدنى شك.. ويستحق الاحترام والتقدير، بل والحديث عنه كمثالٍ يُحتذى من كل مسؤول.

لكن هناك جانبًا آخر للصورة: هل يمكن اعتبار الموقف المذكور قاعدةً سائدةً اليوم في أوساط المسؤولين في المجتمعات الغربية؛ في أوروبا نفسها، وفي غيرها من دول يُفترض أنها «متقدمة»، وذات تقاليد ديمقراطية وإدارية عريقة، من اليابان إلى أمريكا؟

من المؤسف أن الجواب الأكيد هو «لا» كبيرة.. فبغض النظر عن الاستثناءات التي كان موقف اللورد البريطاني واحدًا منها، ولو كانت بالعشرات، يتعلق الموضوع بثقافةٍ سياسية وإداريةٍ عامة تشمل عشرات الآلاف من المسؤولين في مختلف المجالات.

ثمة تقارير ودراسات متخصصة تدعم تلك الإجابة السلبية، لكننا نكتفي هنا برأيٍ لباحثٍ بريطاني آخر، كتبهُ أيضًا، للمفارقة، تعليقًا على استقالة الوزير بيتس.. فقد نشرت صحيفة (الغارديان) البريطانية للخبير، ستيفن ستيرن، مدير مركز المُرتّبات العالية أو The High Pay Center المستقل الذي يرصد التفاوت في الأجور في المجتمع البريطاني، ويراقب أداء الطبقة ذات الرواتب العليا فيه.. تحليلًا يقول: «يبدو أن هذا الموقف العلني المُشرِّف فاجأ بشكلٍ كبير ويستمنستر (المنطقة التي يقع فيها كثيرٌ من مؤسسات الحكومة البريطانية في لندن)». ثم يستعير الباحث مقولة للقاضي «براك» من مسرحية مشهورة للكاتب النرويجي «هينريك إبسن»، يقول فيها القاضي منبهرًا، خلال المسرحية: «ولكن.. يا إلهي، لم يعد الناس يقومون بمثل هذا اليوم».

«كان هذا يحدث في الماضي»، يتابع الباحث البريطاني متحدثًا عن استقالة الوزير. وبعد أن يضرب مثالين، فقط، حصلا خلال العقود الماضية ويتعلقان بالموضوع، يعود للاستنتاج قائلًا: «لكن مثل هذه الاستقالات المُشرِّفة، المبنية على المبادئ، أصبحت أمرًا نادرًا اليوم. وعلى العكس من ذلك، ينبغي علينا أن نستمر في (مهاجمة المَعني) واستخدام وصف (المُحاصَر) على مدى أسابيع، ليُمكن بالكاد لوزيرٍ مخطئ أن يستسلم ويخرج بتثاقل من مكتبه»!

ثمة أزمةٌ في الشعور بالمسؤولية وافتقاد النزاهة في الحكومات الغربية وصلت إلى درجة أن تصبح (ظاهرةً) مقلقة، وهي جزءٌ من مشكلةٍ أكبر في مجمل النظام السياسي المعاصر. لا حاجة للإنسان العادي لدراسات تُثبت ذلك، ففي أمريكا وحدها، تفرض الظاهرة نفسها من قمة الهرم الحكومي لأسفله اليوم. يكفي، مثلًا، أن وزير العدل الأمريكي عُيّنَ في المنصب، رغم تاريخه العنصري بسبب ولائه لرئيسه، ثم إنه كذب على الكونغرس أكثر من مرة خلال الشهور الماضية، ويبدو مصرًّا على البقاء في منصبه مهما حصل.

كل ما نأمله، مع القارئ الكريم، ألا يجد المسؤول العربي تبريراً لتهرُّبهِ من المسؤولية، حين يُخطئ، اقتداءً بالقاعدة التي نتحدث عن شيوعها اليوم في الغرب (المتحضر).

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store